أن يلتفت مثقفو العالم لرحيل الكاتب الروائي أحمد أبو دهمان، وتنعاه السفارة الفرنسية في الرياض، وتؤكد أنها لن تنسى هذا الصوت الحساس، الذي يفتح طريقة أخرى للوجود في العالم، فذلك دليل مكانة الراحل (أبو نبيلة) الذي استعاد (جنوبه) وأعاد صياغته في رواية (الحزام) واشترتها دار (غليمار) في عاصمة النور، فكستها حُلّة باريسيّة.

وفي هذه المساحة التأبينية، تستعيد «عكاظ»، من خلال أصدقاء وأقارب صاحب الحزام، جوانب من النشأة والعلاقات الإنسانية، وتوثق المكان الذي انطلق منه وبه أبو دهمان إلى العالمية.

محمد آل عطيف: يبكي لأي مشهد يثير عاطفته

في رحيل ابن الخالة الأديب العالمي أحمد بن سعد أبو دهمان، تنطوي صفحة من أنقى صفحات التواصل الأخوي شبه الأسبوعي، كان دائماً ما يسأل عن أحفادي وعن صحتهم، وعن مزيد من الصور لأمي (خالته)، التي توفيت بعد أمه بنحو عقدين، إذ يقول إنها تذكره بأمه رحمهم الله.

كان كثيراً ما يصمت في أحاديثه عن قريته وقرية أخواله (درامة بني بشر)، خصوصا مداميكها وأزقتها، يضع يده اليمنى على خده ويصمت برهة، ثم يعاود الحديث.

كان عاطفياً، يبكي من أي مشهد يثير عاطفته، لكنه سرعان ما يتمالك نفسه ويعيد الحديث بأدب جم لا تريد منه أن يسكت.

ولد أبو دهمان في قرية آل الخلف بني بشر، إحدى قرى محافظة سراة عبيدة في منطقة عسير، وحمل قريته في قلبه، فجعل منها بطلةً لروايته (الحزام)، التي تُرجمت للفرنسية، وأبهر بها الأدب العالمي، وكانت جسراً بين الثقافتين العربية والفرنسية، وصوتاً يعبر عن الإنسان الجنوبي أينما كان.

رحل جسداً، لكن إرثه سيظل ماثلاً في كل من قرأ الحزام، وفي كل من مرّ على رجال ألمع باحثاً عن الحكاية في ملامح المكان.

علي الموسى: انثروا ما تبقى من أوراقه على مرابع ابن الملوح

أحمد أبو دهمان كاتب الأمل المنبث من خوالج نفس امتزجت بالحزن، وكاتب المجموع رغم نهايات الحبس الانفرادي الذي اختاره لنفسه في أعوام نفسه الأخير.

موضحاً أن آخر اتصال بينهما كان في ليلة الـ7 من نوفمبر الماضي، وروى له أول ليلة قضاها في مستشفى الشميسي بالرياض، وترك الغرفة، وانضم إلى العصبة الأولى من مهاجري جماعته الذين يعمل بعضهم على بوابة المشفى نفسه الذي نام فيه عليلاً ليلة الجلطة الأولى قبل أعوام، ويرى أن «أبو دهمان»، تلظّى بغربة وعذابات، ولم يكن متصالحاً مع نهايات الرحلة، ولا ودوداً لصيرورة المرحلة الإنسانية ولا متسامحاً مع الحاجة، الكفاف حد الجفاف. وذهب إلى أنه كان دوماً خارج المكان، فلم يسكنه مكان سكن فيه. لم تسكنه أبداً قريته التي انكسرت عليه إلى نصفين: نصف ضده ونصف ثانٍ لم يقبل وصائف روايته، ولم تسكنه باريس التي عاشها 30 عاماً.

وتطلّع إلى حمل نعشه إلى شارع الأعشى وبيوت منفوحة القديمة وحرم كلية الآداب القديم بشارع الجامعة بالملز، وشحن لباسه لإفرنجي، إلى حدائق (تروكاديرو) في باريس وجادة جورج الخامس، وانثروا آخر أوراقه، على مرابع قيس بن الملوح، الذي كتب بشعره شيئاً من سيرة (أبو دهمان) قبل أكثر من 14 قرناً، فكلاهما كأنما جاءا إلى الدنيا هرباً من النهايات، وكلاهما هرب إلى النهايات؛ كي ينسى عذابات الدنيا.

علي مكي: أقام في الهامش وأضاء المركز!

ليس سهلاً أن يُكتب عن أحمد (أبو دهمان) بعد رحيله؛ لأنّ الكتابة كانت بيته الأول، وصوته الأصدق، وامتداده الطبيعي في العالم. رحل الكاتب والروائي السعودي الذي عاش حياته وفيّاً للكلمة، ومخلصاً لفكرة أن الأدب ليس ترفاً، بل طريقة لفهم الوجود، والإنسان، والتحولات العميقة التي تصنعنا دون أن ننتبه.

عرفه القرّاء بوصفه صاحب (الحزام)، الرواية التي خرجت من القرية إلى العالم، ومن الذاكرة المحلية إلى اللغات الأخرى، دون أن تفقد نبرتها الأولى. لكنه، في الجوهر، كان أكثر من رواية ناجحة أو اسم لامع، كان كاتباً يُقيم في الهامش ليضيء المركز، ويكتب من التفاصيل الصغيرة ليقول ما تعجز عنه الشعارات الكبرى.

قبل سنوات، حين أجريتُ معه حواراً في «عكاظ»، بدا أحمد أبو دهمان كما هو في نصوصه: هادئاً، عميقاً، ممتلئاً بالحكايات التي لا تُقال دفعة واحدة. كان يتحدث عن طفولته في القرية لا بوصفها ذكرى بعيدة، بل باعتبارها مخزوناً حيّاً للكتابة، وعن الغناء الذي كان يرافق الحياة والموت معاً، وكأنّ الفرح والحزن عنده وجهين لعملة واحدة اسمها الإنسان.

لم يكن يرى الكتابة فعلاً بطولياً، ولا كان يتعامل معها بوصفها مهنة استعراضية. كان يؤمن أن الكلمة حين تُكتب بصدق تصبح كائناً حياً تتحرك، وتتنفس، وتترك أثرها دون افتعال. في حديثه، لم يبالغ في تعريف نفسه، ولم يتكئ على منجزه، بل كان أقرب إلى راوٍ يعرف أن أجمل ما في الحكاية هو ما يُترك للقارئ ليكتشفه وحده.

تحدث عن اللغة بوصفها وطناً، لا أداة. وعن الغربة لا كفقد، بل كمسافة ضرورية لرؤية الذات بوضوح. كان يدرك أن الكتابة بين ثقافتين لا تعني التنازل عن الجذور، بل تعني اختبارها في ضوء آخر. لذلك ظل نصه محتفظاً بحرارته الأولى، حتى وهو يُقرأ بلغات بعيدة.

في الحوار، كان واضحاً أن النجاح عنده لا يُقاس بالانتشار ولا بالجوائز، بل بقدرة النص على البقاء. أن يظل حياً في الذاكرة، وأن يعثر القارئ فيه على شيء يشبهه، أو يوجعه، أو يواسيه. تلك القناعة تفسّر لماذا بقي أحمد أبو دهمان بعيداً عن الصخب، قريباً من الجوهر.

برحيله، تخسر الثقافة السعودية واحداً من أصواتها الأصيلة، وتخسر الرواية العربية كاتباً آمن بأن الحكاية الحقيقية لا تُكتب من فوق، بل من الداخل. لكن ما يخفف هذا الفقد أن أثره لم يُغلق بموته، فالنصوص التي كتبها، والحوارات التي قال فيها نفسه بصدق، ستظل شاهدة على كاتب عاش كما كتب، وكتب كما عاش. رحم الله أحمد أبو دهمان، فقد ترك لنا من صوته، ما يكفي لنصدّق أن الأدب، حين يكون صادقاً، لا يموت!

*عبدالله ثابت يقول: أعود فقط لعبارة (ماركيز) عن (بورخيس) حين قال: «هذا الذي حملنا على كتفيه إلى العالم، وهكذا فعل (أبو نبيلة) بحزامه. رجل المطر والقرى وباريس وأناقة الروح والكلمات. جمعتني به صداقة وحب كبير، وحين مد لي بالحزام قبل نحو العقدين قال لي بعناق الأخ الكبير: لا أدري أينا كتب الٱخر، وكان هذا أحمد دوماً. جلل الله روحه بالمطر والرياحين، وعزائي لأهله ولنبيلة. وما أصعب هذا على فتاة أن يكون أبوها أحمد.. ويرحل»!

عيسى سوادي: الجبلي الذي شد «حزامه» وصعد إيڤل ليخبر العالم عن وطنه

في عام 1997، اختار أحمد أبو دهمان أن يبدأ مشروعه الكتابي الأدبي غير المسبوق سعودياً، وأن يخاطب الآخر بلغته الأم، يكتب للعالم بـ(الفرنسية) عن قريته (العربية) في جنوب غربي السعودية.

‏ومع مطلع الألفية، في عاصمة الأدب والنور باريس؛ قرر ذلك الجبلي السعودي أن يشد (حزامه) على خاصرة ورقه وأرقه، ويصعد قمة (إيڤل)، ممسكاً برأس العالم، يديره بثقة ويشير إلى وطنه بزهو!

‏عن إنسان هذه الأرض، خاطب أبو دهمان مجتمعات الأدب العالمي والقراءة، باللغة الفرنسية -لغة الأسلوب كما يقال- ثم توالت الترجمات لرائعته (الحزام) تطوف الكوكب سريعاً، ولأكثر من 10 لغات. رحم الله أبا نبيلة.

يحيى امقاسم: زرع الجبال.. عاد ولم يعد!

حين التقيته أوّل مرة في منزل الراحل الصديق محمد الأحول -سفير جمهورية اليمن بالرياض رحمه الله- عام 2006 كان يتفحص الكلمات التي يسمعها مني عن إيفادي إلى الملحقية الثقافية في فرنسا، ويومها قال ستنتقل ليس للعمل بل لاتساع الأبواب وهو امتحان كبير للحب والدهشة.

هناك 30 عاماً تسبقني على كتفيه حينها، فمن أنا لأُقارع سيد (الحزام) في باريس وآخذ حصّتي منها كما فعل هو وغيره من الذاهبين شمالاً وعميقاً!

وحال وصلت باريس في ديسمبر 2006 باغتني بعبارة: «أخيراً وصلت الكلمات التي أُريدها.. التي ستُعيد لي معنى الجنوب»، ذلك أنّني أرسلت له رسالة نصّية أذكر «ضيم الحنين» فيها؛ إذ تداركت ملامحه في المكين من جبال «ساق الغراب» وعدم حيادها وانتمائها للمطلق من البقاء والصرامة، وفي تطابق يكاد يخلع ورد القلب. هذا وهو يقطع عقود الزمن في باريس وعبر حشود من الحنين إلى جنوب الجنوب.

كان مذعوراً على ما تبقى من التوق لأمكنته الخالدة في تجاعيد اليدين والكتابة، ويُباشرك بقراره المستمر أنّه سيعود، ولا يعرف أنّ العزلة وسام يحمله على صدره كلّما صادفته وهو يُذكرك بقراره المعتاد والملحّ «إنّي أعود».

لماذا يا جبل (نبيلة) تعود، فيُحكم الحديث بأنّك تبكي كلما التفتَ إلى الخلف، ولأنّ الأيّام سابقة فقد كانت ذكرياتها مديدة لدرجة أنّها تحك ظهرك وتنال منك خطوة خطوة في باريس العارية.

ولماذا الآن يا شديد (الحزام) اخترت العود الأبديّ كما لو أنّك لم تعد من وحدة هناك إلى عزلة هنا.. مثلما آخيت الزوايا الواعدة في الدائرة (15) من باريس، آويت إلى سقف في الرياض ويُحدّثك أنّك في بيتك؛ فيما منزلك داخلك تحمله حيث تختبر الكلمات لبعث قرية من الأمس البعيد. الآن ترحل دون اللغات، ودون الأيّام التي دسسناها للمماحكات واللقاءات الخاطفة، فمن لقراك التي بثثتَ الحياة فيها، ولم تقل كلمة عن خطّتك الذهبية للإياب من هذا الاختباء المستمر!.. لقد تركتنا أمام كشوفات القطيعة ومرارة (المحبّة) التي وافتك الآن أبداً!

محمد أبو دهمان.. فقد وطن أحد أصواته النبيلة

في وداع الأب الأديب أحمد أبو دهمان، لا نكتب رثاءً عابراً، بل نُسجّل لحظة فقد وطنٍ أحد أصواته النبيلة، وأحد الذين حملوا ذاكرته في القلب، وكتبوه للعالم بصدق لا يساوم، وبحب لا يشيخ.

ننعى أخانا أبو نبيلة، ونُعزّي الوطن في فقده؛ كونه أكثر من كاتب، كان شاهداً أميناً على الإنسان والمكان، وحارساً للجذور في زمن الاغتراب، لم تُغْره سنوات الغربة ولا أضواء باريس عن وفائه لقريته، ولا عن انتمائه العميق لأرضه وأهله، فظلّ الوطن عنده فكرةً كبرى لا تغيب، وحقاً لا يُؤجَّل.

نستحضر كلمته الخالدة التي لخّصت فلسفته الوجودية والوطنية: «ليس أعظم من أن تصحو على وطنٍ شجاع»، وهي كلمة لم تكن شعاراً، بل سلوكاً ومعنى، عاشها وكتبها ومضى وهو مؤمن بأن شجاعة الأوطان تُقاس بصدق مثقفيها، ونبل اختلافهم، وعمق محبتهم.

رحل أبو دهمان جسداً، وبقي أثره حياً في الرواية، وفي الذاكرة، وفي ذلك الخيط السري الذي يصل القرية بالعالم، والإنسان بوطنه.