أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/1775.jpg&w=220&q=100&f=webp

عبداللطيف آل الشيخ

إسرائيل تتخيل الفوضى.. والسعودية تحرق الخيال

تشهد المنطقة، في السنوات الأخيرة، تحولاً واضحاً في طبيعة الصراعات، حيث أخذت القوى الإقليمية والدولية تتجه نحو أساليب غير تقليدية لا تعتمد على الحروب المباشرة، بل على صناعة الفوضى المنظمة التي تستهدف الوعي العام وقدرة الدول على الحفاظ على استقرارها الداخلي. وفي هذا السياق، برزت محاولات بعض الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الدفع باتجاه تشكيل موجة من الاضطرابات «المهندسة» داخل السعودية، عبر استثمار شبكات وظيفية ومجموعات تعمل بالوكالة؛ بهدف إعادة صياغة المشهد الإقليمي بما يتوافق مع الرهانات التي نشأت في ظل اتفاقيات إبراهيم وما تفرع عنها من مشاريع وتصورات سياسية وأمنية.

هذه التحركات ليست نتاج فراغ، بل تأتي ضمن تصور يرى أن التأثير على الدول القوية لا يتحقق عن طريق المواجهة، بل عبر استهداف الثقة الداخلية، وخلق طبقات من الشك، وتضخيم الخلافات الطبيعية، وتحويلها إلى صور أكبر من حجمها. ومع ذلك، فإنّ هذه الجهود تصطدم بواقع لا يمكن تجاوزه، يتمثّل في قدرة السعودية المؤسسية على قراءة التهديدات في مراحلها المبكرة، وتحليل الخطاب الموجَّه، وفهم طبيعة الأدوات التي تحاول الجهات الخارجية استخدامها، وإدراك العلاقة بين الفاعلين المحليين والإقليميين الذين يشكلون خطوط هذا المشروع.

تعتمد فكرة «الفوضى المستوردة» على بناء شبكات تعمل في مستويات متعددة، أفقية ورأسية، تتكون من حسابات رقمية وشخصيات ظاهرها الاستقلال وباطنها الارتباط بخطاب موحد. وتعتمد هذه الشبكات على محتوى إعلامي مُهندس، وتمويل موجه، وقنوات تأثير تعمل على تضخيم التناقضات، وتحويلها إلى جدليات، ثم إعادة تدويرها حتى تبدو كأنها تمثل رأياً عاماً، رغم أنها في حقيقتها صناعة مخبرية لا أكثر.

وتستند هذه المقاربة إلى ثلاث ركائز رئيسية:

الأولى: الهجمات السردية التي تبني قصصاً وروايات تزعم وجود أزمات داخلية غير موجودة، وتُسقط تصورات مختلقة على واقع لا يدعمها.

الثانية: الهجمات النفسية التي تستهدف العلاقة بين المواطن ومؤسساته، عبر الإيحاء بوجود ضعف أو ارتباك أو انقسام، دون تقديم حقائق أو شواهد موضوعية.

الثالثة: الهجمات الوكيلة التي تُدار من خلال دول وجهات وظيفية لا تعمل بدافع مصالحها الذاتية، بل وفق أجندات خارجية تتكفل بتزويدها بالرسائل والأدوات والتمويل.

غير أنّ السعودية، بطبيعتها المؤسسية وبحجم خبرتها في إدارة التحديات، تمتلك القدرة على رصد هذه التحركات قبل أن تكتمل، وعلى قراءة العلاقة بين الخطاب الظاهر وما يدور خلفه، وعلى كشف الترابط بين الخلايا الرقمية والجهات التي تقف وراءها. وتعتمد المملكة في تعاملها مع هذا النمط من التهديدات على منهجية استباقية، لا تنتظر تطور الخطر، بل تفككه عند لحظة تشكّله الأولى، من خلال تحليل الرسائل، ورصد التمويل، وفهم زوايا الخطاب، وتتبع المسارات التي يستخدمها أصحاب المشروع.

ولا تنظر السعودية إلى هذه التحركات باعتبارها أحداثاً منفصلة، بل كجزء من منظومة تهدف إلى خلق بيئة مشوشة. ولهذا تعتمد الدولة على استراتيجية تقوم على قراءة ما بين السطور، وتحليل التناقضات داخل الخطاب الواحد، ودراسة السياق الذي تظهر فيه الحملات، وتقييم الأهداف القصيرة وطويلة المدى، قبل الانتقال إلى مرحلة مواجهة السرديات وتعطيل قدرتها على الانتشار.

وتُظهر التجارب الماضية أن كل محاولات تصدير الفوضى إلى الداخل السعودي عبر وكلاء إقليميين انتهت دون أثر حقيقي. فالبيئة السعودية اليوم أكثر تماسكاً، والمجتمع أكثر وعياً، والعلاقة بين المواطن والدولة أقوى من أن تُخترق بخطاب مُعاد تدويره. وقد أصبح من الواضح أن الشخصيات التي تحاول تقليد اللهجة السعودية، أو استخدام الرموز المحلية، أو تمثيل رأي عام مُفتعل، تفقد تأثيرها بسرعة؛ لأن المجتمع بات قادراً على فرز الصوت الوطني من الصوت المصنوع.

وعلى الرغم من ذلك، فإن السعودية لا تكتفي بإفشال هذه المحاولات، بل تتجه نحو التعامل مع جذورها. فهي تكشف شبكات التمويل، وتفضح الجهات المنفذة، وتُحمّل الدول الوظيفية تكلفة أدوارها، وتمنع تحولها إلى منصات تخدم مشاريع خارجية. وهذا يجعل استمرار هذا النمط من الاستهداف مسألة مكلفة وغير فعّالة.

الخلاصة أن المشروع الذي تحاول إسرائيل بناءه عبر وكلائها وأدواتها الرقمية والسياسية لا يملك مقومات النجاح داخل السعودية. فهو يتجاهل طبيعة الدولة، وحجم وعي المجتمع، وقوة المؤسسات، وصلابة البنية الاستراتيجية التي تقرأ التهديدات وتحاصرها قبل أن تظهر. ولذلك، فإنّ كل ما يُبنى على هذا المشروع ينتهي إلى رماد، بينما تبقى السعودية ثابتة، قادرة على حماية أمنها، وعلى إسقاط أي محاولة لتصدير الفوضى إلى داخلها، مهما تبدلت أدوات الخصوم أو تغيرت أساليبهم.

منذ 3 ساعات

حين تتحوّل «الورقة الأمنية» إلى قيدٍ على صانع القرار الإسرائيلي

إنّ «تجريم منظمة ما» ليس خطوة شكلية.. بل التزام سيادي كامل يُلزم الدولة بتشريعات قانونيّة صارمة.. وبسياسات ماليّة وعسكريّة ودبلوماسيّة ثابتة لا يمكن التراجع عنها بسهولة.. فمجرّد إدراج كيانٍ ما في قوائم الإرهاب يعني الدخول في منظومة من الإجراءات التي تُقيد حركة الدولة وتُثبّت موقفها تجاه هذا الكيان بشكل نهائي وغير قابل للمناورة.

من هنا يتّضح سبب امتناع الكيان الصهيوني عن إدراج جماعات مثل «الإخوان المسلمين» و«الحوثي» و«الحرس الثوري» ضمن قائمته الرسميّة.. فالتصنيف بالنسبة له ليس إعلان موقف.. بل خطوة تُكبّله وتمنعه من استخدام هذه التنظيمات كورقة متحرّكة في مسرح السياسة والأمن، إنّ «التهديد القابل للاستخدام» أهم عنده من «التهديد المصنّف».. لأن المصنّف ثابت والمُستخدم مرن.. والمرونة هي جوهر اللعبة الاستخبارية التي يقوم عليها هذا الكيان.

حين تصنّف دولةٌ ما جماعةً كمنظمة إرهابيّة فإنّها تُجرّد نفسها من خيار التلاعب بها سياسيّاً، إذ يصبح التعامل معها مُلزماً ومباشراً وخاضعاً للقانون، بينما يحتاج الكيان الصهيوني إلى «عدوّ قابل للرفع والخفض».. عدوّ يمكن تضخيمه إلى مستوى «الخطر الوجودي» حين يريد دعماً دولياً.. ويمكن تصغيره إلى مستوى «الخلاف السياسي» حين يرغب بفتح قناة خلفيّة أو تمرير رسالة عبر وسيط.

التنظيم غير المصنّف يصبح أداة مفتوحة، أمّا التنظيم المصنّف فيتحوّل إلى ملف مُغلق، وهذا الإغلاق يُفقد الكيان القدرة على استخدامه كفزّاعة أو كجسر للرسائل، فالتصنيف الرسمي يقتل المرونة، والمرونة هي السلاح الأخطر في يد أجهزة مخابرات «إسرائيل».

الكيان لا يتعامل مع هذه الجماعات بوصفها «أعداء» حقيقيين.. بل بوصفها «أدوات توازن» يستفيد منها عند الحاجة، أحياناً يرفع الإخوان أو الحوثي أو الحرس الثوري إلى مستوى «تهديد إقليمي» ليوحي للعالم بأنّه محاصر من كل الجهات، وأحياناً يهبط بهم إلى مستوى «اختلاف سياسي» حين يحتاج إلى تهدئة المشهد أو تمرير اتفاق.

ولو قام بتصنيفهم رسميّاً لالتزم تلقائياً بردود عسكريّة وماليّة وقانونيّة لا يرغب فيها، ولخرجت هذه الأوراق من يده، وأصبح عاجزاً عن تدويرها حسب اللحظة السياسيّة.

يعتمد الكيان الصهيوني في دعمه الدولي على سرديّة جاهزة يريد تثبيتها في ذهن العالم.. سرديّة تقول: «نحن الدولة الصغيرة المحاصرة.. ونحن محاطون بالأعداء من كل اتجاه».

لكن هذه السرديّة لا يمكن الحفاظ عليها إن خضعت لقوانين التصنيف الرسمي، لأن التصنيف يجبر الكيان على معاملة هؤلاء باعتبارهم أعداءً ثابتين، بينما هو يريد أعداءً «مرنين» يمكن أن يتغيّر توصيفهم في أي لحظة.

فحين تُترك هذه التنظيمات خارج التصنيف يمكن للكيان أن يُعيد كتابة المشهد كما يشاء، فيصفهم في أسبوع: «أخطر تهديد»، وفي الأسبوع الذي يليه «خصومة ثانوية»، وفي مناسبة أخرى «شماعة يعلّق عليها فشله»، وكل ذلك من دون أن يلتزم بأي تبعات قانونيّة أو عسكريّة.

إنّها لعبة مكشوفة يعرفها كل من قرأ تاريخ أجهزة الاستخبارات لدى «إسرائيل»، لعبة تقوم على تدوير العدو وإعادة تشكيله والتحكم في مستوى تهديده بما يخدم اللحظة السياسيّة.

الكيان يريد أن يبقى قادراً على الضغط على زرّ الإنذار في أي وقت، فإن احتاج إلى دعم دولي ضخم رفع منسوب خطر هذه المنظمات، وإن احتاج إلى التفاوض أو التهدئة خفضها إلى مستوى الخلاف السياسي، وإن احتاج إلى فزّاعة للرأي العام الداخلي أعاد تسويقها كعدو وجودي.

لكن لو صُنّفوا رسمياً لانتهت اللعبة.. ولكان مُلزماً بالتحرك عسكرياً أو فرض حصار أو اتخاذ إجراءات لا يريدها ولا يتحمّل كلفتها.

لذلك يصرّ الكيان على إبقاء هذه الجماعات في المنطقة الرماديّة، لا هم أعداء دائمون.. ولا هم خارج اللعبة، بل أدوات تشغيل في غرفة الاستخبارات، وأدوات يتم تحريكها متى شاء.. ويتم تجميدها متى شاء.

ما يتجنبُه الكيان ليس «التصنيف» بحد ذاته.. بل «التبعات المُلزمة للتصنيف»، فالتصنيف يُفقده المرونة.. والمرونة هي المجال الذي يبرع فيه.. وهي الساحة التي تدير فيها أجهزته أخطر ألعابها.

لذلك يبقى الإخوان والحوثي والحرس الثوري خارج القائمة، ليس لأنهم ليسوا تهديداً.. بل لأن بقاءهم خارج القائمة يجعلهم «أداة» لا «عدواً».. وورقة يمكن استعمالها أو إخفاؤها وفق ما تتطلبه اللحظة السياسيّة.

هذه هي الحقيقة المكشوفة التي لا تريدها أجهزة «إسرائيل» أن تتحوّل إلى وعي شعبي، لأن كشفها يعني إسقاط إحدى أهم أدواتها في تشكيل المشهد الأمني والإعلامي.

00:08 | 30-11-2025

زيارةٌ تُعيد رسمَ حدودِ النفوذِ.. وتُعلنُ عودةَ واشنطن إلى الرياضِ لا العكس

لم تكن زيارةُ وليِّ العهدِ رئيسِ مجلسِ الوزراءِ الأميرِ محمدٍ بنِ سلمانَ بنِ عبدِ العزيز إلى الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيةِ حدثاً دبلوماسياً عابراً، ولا مجرّد محطةٍ ضمن جدولٍ سياسيٍّ مزدحمٍ؛ بل كانت لحظةً فارقةً في تاريخِ العلاقةِ بين الرياضِ وواشنطن، ومنعطفاً يعيدُ تشكيلَ ميزانِ القوى في المنطقةِ، ويضعُ المملكةَ في قلبِ المعادلةِ الدوليةِ بوزنٍ غير مسبوقٍ.

منذ لحظةِ وصولِ ولي العهد، والاستقبالُ المهيبُ الذي نظّمته الإدارةُ الأميركيةُ -استقبالاً أقربَ إلى استقبالِ رؤساءِ الدولِ العظمى- كان المؤشرُ الأولُ على أنّ الولاياتِ المتّحدةَ تدركُ أنّ ضيفَها ليس زعيماً عادياً، وأنّ السعوديةَ لم تعد دولةً تنتظرُ إشعاراتِ الدعمِ أو رضا الحلفاءِ، بل دولةٌ تأتي وهي تحملُ مشروعاً واضحاً، ورؤيةً اقتصاديةً وسياسيةً تجعلُ الآخرينَ يعيدون حساباتِهم.

تحالفٌ يعاد تشكيلُه:

في قلبِ الزيارةِ، وُقِّعت «الاتفاقيةُ الدفاعيةُ الاستراتيجيةُ»، وهي ليست تطويراً للعلاقةِ التاريخيةِ فحسب، بل إعادةُ صياغةٍ لتحالفٍ يريدُ الطرفانِ له أن يمتدَّ لعقودٍ طويلةٍ. تصنيفُ الولاياتِ المتّحدةِ للمملكةِ كـ«حليفٍ رئيسيٍّ من خارجِ الناتو» يؤكّد هذه الحقيقةَ، ويفتحُ البابَ أمام شراكاتٍ عسكريةٍ وصناعيةٍ وتقنيةٍ متقدمةٍ، ويرسّخُ قدرةَ المملكةِ على بناءِ قوةٍ رادعةٍ تحفظُ أمنَها وأمنَ المنطقةِ.

وفي هذا الإطارِ، لم يكن ملفُّ مقاتلاتِ F-35 إلا أحدَ المؤشراتِ على انتقالِ العلاقةِ من مستوى الشراكةِ التقليديةِ إلى مستوى التحالفِ ذي العمقِ العسكريِّ الحقيقيِّ.

اقتصادٌ يتوسّعُ خارجَ الحدودِ:

الملفُّ الاقتصاديُّ كان محوراً أساسياً، إذ أعلنت المملكةُ عن نيتها رفعَ حجمِ استثماراتِها في الولاياتِ المتّحدةِ ليصلَ إلى تريليونِ دولارٍ. هذا الرقمُ لا يعبّرُ فقط عن توسّعِ اقتصاديٍّ، بل عن ثقةٍ بقدرةِ الصناديقِ السعوديةِ على قيادةِ تحولاتٍ كبرى في الاقتصادِ العالميِّ، وعن إدراكٍ أميركيٍّ لأهميةِ أن يكونَ رأسُ المالِ السعوديُّ جزءاً من خارطةِ النموِّ الأميركيِّ في القطاعاتِ الحسّاسةِ.

وشملت النقاشاتُ ملفاتِ الذكاءِ الاصطناعيِّ، والمعادنِ الحرجةِ، والطاقةِ المتقدمةِ، والبنى التحتيةِ، ما يجعلُ الزيارةَ نقطةَ انطلاقٍ لفصلٍ جديدٍ من التداخلِ الاقتصاديِّ الذي يتجاوزُ أرقامَ التجارةِ ويصلُ إلى صناعةِ المستقبلِ.

الملفُّ النوويُّ.. مفاوضاتٌ تُبنى على قوة:

أما التعاونُ النوويُّ المدنيُّ، فكان حديثَ الأروقةِ الأميركيةِ، لأنّ الرياضَ تدخلُ هذا الملفَّ وهي تمسكُ بخيوطِ الطاقةِ العالميةِ، وتملكُ القدرةَ على اختيارِ شريكِها النوويِّ. ولذلك، جاءت تصريحاتُ المسؤولينَ الأميركيينَ واضحةً: لا اتفاقَ نهائياً بعد، لكن المسارَ مفتوحٌ وفق شروطٍ تحافظُ المملكةُ فيها على سيادتِها وخياراتِها.

الشرقُ الأوسطُ من منظورِ الرياضِ:

القضايا الإقليميةُ، من العلاقاتِ الخليجيةِ – الأميركيةِ، إلى التطوراتِ مع إيران، إلى مساراتِ الاستقرارِ في البحرِ الأحمرِ والسودانِ، كانت حاضرةً في الحوارِ، لكنّ الرياضَ لم تعد تطرحُ هذه الملفاتِ من منطلقِ ردِّ الفعلِ، بل من منطلقِ رؤيةِ 2030 التي تعتبرُ الاستقرارَ عنصراً استراتيجياً لازماً للنموِّ ولموقعِ المملكةِ الدوليِّ.

ومن أبرزِ النقاطِ أنّ المملكةَ شدّدت على أنّ العلاقاتِ مع واشنطن تقومُ على الاحترامِ المتبادلِ، وأنّ السعوديةَ ليست طرفاً يبحثُ عن حمايةٍ، بل شريكٌ يملكُ قرارهُ، ويعرفُ أين يضعُ مصالحَهُ، وكيف يصنعُ وزنهُ.

ما بعد الزيارةِ.. ما الذي تغيّر؟:

لقد خرجت الزيارةُ بنتائجَ تتجاوزُ الاتفاقياتِ المكتوبةِ؛ خرجت بتثبيتِ واقعٍ جديدٍ:

أنّ المملكةَ تقودُ الشرقَ الأوسطَ سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وأنّ واشنطن -رغم كل التحولاتِ- لا تستطيعُ تجاهلَ مركزيةِ الرياضِ في صناعةِ الاستقرارِ العالميِّ.

والأهمُّ أنّ الاستقبالَ الأميركيَّ العلنيَّ، والحفاوةَ الاستثنائيةَ، واللغةَ التي استخدمها الرئيسُ الأميركيُّ، كلّها تعكسُ إدراكاً واضحاً بأنّ الأميرَ محمدَ بنَ سلمانَ ليس مجرد قائدٍ في لحظةٍ سياسيةٍ، بل رجلٌ يعيدُ تشكيلَ الجغرافيا والاقتصادِ والتحالفاتِ بطريقةٍ لم يشهدْها الإقليمُ منذ عقودٍ.

زيارةٌ كتبت فصلاً جديداً في علاقةٍ كبرى، وأعلنت أنّ الرياضَ اليومَ ليست تابعاً، ولا باحثاً عن دورٍ... بل صانعٌ للدورِ، وصعوبةٌ في المعادلةِ، ورقمٌ لا يمكنُ تجاوزه.

00:05 | 23-11-2025

الدولة التي كُلِّفَت بالعظمة

ليست كل الدول تتكوّن من جغرافيا، فبعضها يُصاغ من رسالة، وبعضها من اختبارٍ إلهي يضعها في مركز التاريخ لتكون شاهدةً على معنى الثبات وسط العواصف.

والمملكة العربية السعودية واحدة من تلك الكيانات النادرة التي لا يمكن تفسير وجودها بمعادلات السياسة وحدها؛ لأن نشأتها لم تكن فعلَ توسّعٍ ولا إرثاً استعمارياً، بل كانت حالة نهوضٍ من رحم الاضطراب إلى رحابة النظام، ومن رمالٍ ممزقة إلى كيانٍ يتكئ على عقيدةٍ واحدة ودستورٍ من السماء.

منذ أن أطلّ فجر التوحيد على يد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيّب الله ثراه- والعالم يراقب تجربة مختلفة تماماً:

دولة قامت على الشرعية الدينية والسياسية معاً، فجمعت بين ما فرّقته الأمم، ونجحت في أن تجعل من العقيدة مشروع بناء، لا شعاراً يُرفع في المساجد فقط.

ولذلك لم يكن غريباً أن تتحوّل المملكة إلى محورٍ عالمي، يُقاس موقف كل دولةٍ من العالم العربي و الإسلامي بمدى قربها أو بعدها من الرياض.

لكن كل نهضةٍ عظيمة تُولد معها حاقدين بحجمها، فكما تُنبت الأرض الخصبة سنابلها، تُثير في الوقت ذاته غيرة الصخور العقيمة من حولها.

ولأن السعودية حملت شرف خدمة الحرمين الشريفين، كان من الطبيعي أن تتكاثر حولها أصوات الحقد والشك، تارةً باسم الدين، وتارةً باسم السياسة، وأحياناً باسم «حقوقٍ» يطالب بها من لا يحترم حقّ الله في الحقيقة.

إن المملكة لم تدخل مرحلة البناء من فراغ، بل من تاريخٍ طويل من الاستهداف، ومن محاولاتٍ متكرّرة لزعزعة مكانتها الرمزية في العالم الإسلامي.

ومع ذلك، فإن ما يميّز هذه الدولة أنها لا ترد على أعدائها بالصوت، بل بالإنجازات.

تتقدّم خطوةً في الاقتصاد، وخطوتين في الثقافة، وثلاثاً في السياسة، حتى صار خصومها أسرى لردّات فعلٍ دائمة، لا يمتلكون فيها زمام المبادرة ولا حتّى القدرة على الفهم.

اليوم، في زمن الرؤية والطموح، تتجلّى الحقيقة بوضوحٍ أكبر:

السعودية لم تعد فقط مركز الإسلام، بل أصبحت مركز القرار العالمي الجديد.

هي الدولة التي تتحدث بثقةٍ في الملفات الكبرى: من الطاقة إلى السلام، من البيئة إلى الذكاء الاصطناعي، من مستقبل المدن إلى مستقبل الإنسان نفسه.

وما يثير دهشة العالم هو أن هذا الصعود المتسارع لم يفقدها جذورها، بل زادها التصاقاً بمرجعيتها الأولى: الكتاب و السنة.

فهي لا ترى في الحداثة تناقضاً مع الإيمان، بل استمراراً له في شكلٍ مدنيٍّ متقدّم.

ولعلّ سرّ هذه القوة يكمن في معادلة القدر والطموح، فهي تعرف أن الحسد قدرٌ لا يُلغى، وأن الهجوم ثمنٌ للريادة، لكنها في المقابل تعرف أن التاريخ لا يحفظ إلا من يعمل، وأن من خدم الحرمين الشريفين بحقّ، يخدم الإنسانية كلّها.

وهذا الوعي هو ما جعل المملكة لا تنشغل بالخصومات الصغيرة، بل تصنع حولها فضاءً من المبادرات الكبرى:

رؤية 2030، مبادرات الشرق الأوسط الأخضر، التحولات الثقافية والفنية، مشاريع النيوم والبحر الأحمر، وحتى الدور الإنساني الذي تمتدّ أذرعه لجميع الأمصار.

إن من أراد أن يفهم السعودية عليه أن يدرك أنها لا تسير على هوى اللحظة، بل على إيقاع الرسالة.

ومن أراد أن يفسّر عظمة موقعها الجغرافي فعليه أن يقرأ تاريخها السياسي، ومن أراد أن يهاجمها فليستعد ليصطدم بثباتٍ لا يلين.

فهي لا تُحارب لتُثبت وجودها، بل لتصون معناها، وهذا هو الفرق بين الدول العابرة، والدول التي تُخلّد.

قدَر السعودية أن تظلّ في الواجهة، وقدَر خصومها أن يظلّوا خلفها يفسّرون نجاحها بتآمرٍ لا وجود له إلا في عقولهم.

فالدولة التي جمعت بين الحرمين، والتوحيد، والرؤية، لا تخشى شيئاً؛ لأنها تعرف من أين جاءت وإلى أين تتجه.

هي تعرف أن الله إذا شَرَّفَ أرضاً بخدمته، ابتلاها بالعظمة، وأحاطها بالأضداد لتزداد ثباتاً.

تلك هي المملكة العربية السعودية:

ليست مجرد دولةٍ في التاريخ، بل قدرٌ يمشي فوق الأرض بثقةٍ من السماء.

00:09 | 16-11-2025

السعودية.. حين تحفظ روح الشرق من التبخر

لم يكن تصريح السعودية للرئيس الأمريكي مجرّد بيان سياسي، بل لحظة كونية نادرة: دولة تقول «لا» في زمنٍ تُباع فيه كل الـ«نَعَم».

فالموقف السعودي ليس رفضاً للتطبيع، بل رفض لتطبيع الاختلال. ليس تعنّتاً ضد إسرائيل، بل تمسّك بمعنى الوجود العربي قبل أن يتحوّل الشرق الأوسط إلى متحفٍ للذاكرة المفقودة.

في زمنٍ تذوب فيه الحدود بين الأخلاق والمصالح، جاءت السعودية لتضع حدّاً للسيولة الأخلاقية التي اجتاحت السياسة الدولية.

قالت للعالم —بلغة الصمت الهادئ— إننا لا نقيس الحاضر بميزان الصفقات، بل بميزان العدالة.

فـ«الدولة الفلسطينية» ليست ورقة تفاوض، بل شاهد عدلٍ على بقاء الضمير العربي حيّاً.

يخطئ من يظن أن الموقف السعودي انفعال عاطفي، أو تكرار لموقف تاريخي.

إنه قرار مبني على رشدٍ جديدٍ في الدبلوماسية السعودية؛ رشد يُدرك أن التطبيع بلا دولة فلسطينية يعني انتحار المعنى الذي قامت عليه المملكة منذ نشأتها: نصرة القضايا العادلة دون شعارات.

السعودية تعرف متى تُصافح، ومتى تُصعّد، ومتى تترك العالم يتساءل.

إنها تمارس فنّ الانتظار الاستراتيجي، حيث يُصبح الصمت أداة ضغط، والثبات تكتيكاً، والوضوح شكلاً من أشكال الهيمنة الأخلاقية.

لقد نقلت الصراع من جغرافيا السلاح إلى جغرافيا الشرعية: من يمتلك الحق هو من يملك المستقبل.

بينما تسعى القوى الكبرى إلى تحويل الشرق الأوسط إلى لوحة مقايضة: أمن مقابل تطبيع، ونفط مقابل اعتراف، خرجت السعودية لتقول إن هذه اللعبة لا تمرّ من بوابتها.

«لا علاقات بدون دولة فلسطينية» ليست شرطاً، بل حدٌّ أعلى للكرامة السياسية.

إنها ليست مفاوضة على جغرافيا، بل على حقّ الوجود الإنساني في العدالة.

ولأن الرياض تُدرك أن إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة، فقد قدّمت شكلًا آخر من القوة: قوة الموقف.

قوة الرفض التي لا تُرفع بالصوت بل بالثقة.

قوة الدولة التي لا تبحث عن موقعٍ في الصورة، بل تصنع المشهد ذاته.

حين أكدت السعودية هذا القرار أمام واشنطن، لم تكن فقط تُخاطب البيت الأبيض، بل تُعيد توزيع موازين المعنى في العالم العربي.

لقد سحبت البساط من تحت «الصفقات المؤقتة» وأعادت للموقف العربي صوته المفقود.

كأنها تقول: الشرق الأوسط لن يُعاد تشكيله في واشنطن أو تل أبيب، بل في الرياض.

فالذي يملك بوابة الحرمين يملك مفاتيح الوعي الجمعي للأمة، ومتى قال «لا» توقّف التاريخ لحظة ليفكّر.

قد يظنّ البعض أن هذا الموقف مجرّد سياسة خارجية، لكنه في حقيقته سياسة داخل الوجدان العربي.

إنه ترميمٌ للثقة في أن العالم ما زال فيه من يقول لا في وجه العبث، ومن يربط المستقبل بالحقّ لا بالمصالح.

فالسعودية اليوم لا تُفاوض على دولة فلسطين، بل تُفاوض على بقاء الفكرة التي تجعل الإنسان إنساناً.

ولذلك، فإن عبارة «لا علاقات بدون دولة فلسطينية» ليست جملة دبلوماسية، بل وثيقة بقاءٍ للشرق.

وثيقة تقول للعالم: قد تتبدّل التحالفات، وقد تتغيّر الخرائط، لكنّ الضمير السعودي هو آخر ما يُباع.

00:08 | 11-11-2025

«الوطنجيّة».. كلمة الانكشاف الأخير..

حين تصل لغةُ الخطاب إلى درجةٍ يُستخدم فيها مصطلح «الوطنجيّة» كأداة إسقاط أو ازدراء ضد السعوديين، فاعلم أنك أمام نقطة النهاية في الحوار، والنقطة الفاصلة التي تكشف لك بوضوحٍ تامٍّ هوية المتحدث، وأصل أفكاره، ونوعية المبادئ التي يتغذّى منها.

فالكلمة في ظاهرها بسيطة، لكنها في حقيقتها علامةٌ استخبارية الدلالة على انتماء فكريٍّ مريبٍ، وعلى خللٍ في الولاء، وانحرافٍ في البوصلة الوطنية.

مصطلح «الوطنجي» لم يولد في فضاءٍ بريء، ولا خرج من رحم نقاشٍ فكريٍّ صادق، بل خرج من مختبرٍ أيديولوجي مظلم تملؤه النزعة العدائية ضد مفهوم الدولة الحديثة، وضد التحول الوطني الذي تقوده المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وحتى اليوم.

هذا المصطلح كان ولا يزال يُستخدم كـ«رصاصة لفظية»؛ لتشويه أي صوتٍ وطني، وللتقليل من شأن كل من يتبنّى خطاب الدفاع عن الوطن والقيادة.

الذين اخترعوا هذا المصطلح أرادوا أن يُفرغوا حب الوطن من معناه الشريف، وأن يجعلوا الولاء الوطني سُبّة، والانتماء فِعلاً مداناً، وكأن الدفاع عن وطنك تهمةٌ تستوجب الاعتذار.

أرادوا تحويل «الوطنية» من قيمةٍ سامية إلى شبهة، ومن شرفٍ إلى نقيصة، وهذا بذاته أخطر ما في الأمر؛ لأنه يُمثّل تحدياً صريحاً لهوية الدولة السعودية الحديثة، التي قامت على التوازن بين الانتماء الديني والولاء الوطني، في صيغةٍ متفردةٍ جعلت من السعودية نموذجاً عالمياً في الثبات والاستقرار.

من يعرف خلفية هذا المصطلح يدرك تماماً من أين أتى، ومن الذي أشعل فتيله، فقد خرج أولاً من دوائر ما بعد الصحوة، من تلك الجماعات التي انكشفت بعد عام 2017، حين بدأت الدولة السعودية الجديدة مشروعها الإصلاحي العميق بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في رؤية 2030، تلك الجماعات بعد أن فقدت نفوذها الفكري والاجتماعي لم تجد سلاحاً سوى التشويه اللفظي لكل من يقف في صفّ الوطن، فصنعت قاموساً مريضاً مليئاً بالمصطلحات السامة مثل «الوطنجي»، و«الذباب»، و«المطبّل»، لتبرير فشلها في مقارعة الحجة بالحجة.

أما الذين روجوا لهذا المصطلح في الماضي، فهم خليطٌ من المتأثرين بالسرديات المعادية للمملكة، بين يساريٍّ خائبٍ يرى في الوطنية تهديداً لأحلامه العقيمة، وبين إخونجي مؤدلج يعتبر أن الولاء يجب أن يكون لجماعته لا لوطنه، وبين قومجيٍّ مغرورٍ ما زال يحنّ إلى شعارات القرن الماضي.

هؤلاء جميعاً اجتمعوا على عدوٍّ واحد: السعودي المخلص. ذلك المواطن الذي يحب قيادته، ويدافع عن بلده، ويرى في أمنه واستقراره أولويةً تفوق كل اعتبارات الجدل.

إن الذين يصفون السعوديين بالوطنجيّة لا يعارضون «تصرفاً» أو «سياسة»، بل يعارضون فكرة الوطن ذاتها، فهم لا يهاجمون الأشخاص، بل يهاجمون الهوية السعودية نفسها، يكرهون وضوحها، واعتزازها بذاتها، واستقلالها عن المشاريع العابرة للحدود. هم أبناء الخطاب الذي يريد سعودية بلا سعوديين، ودولة بلا روح، ومجتمعاً بلا ولاء ولا ذاكرة.

الحقيقة أن هذا المصطلح انقلب على أصحابه، فصار علامة عارٍ فكرية لا يستخدمها إلا من كُشف ستره، ولا يرددها إلا من سقطت عنه ورقة التوت. لأن كل من يهاجم الوطنية السعودية اليوم يضع نفسه تلقائياً في صفٍّ معادٍ، لا يحتاج إلى تحليل أو تأويل، إذ يكفي أن تسمعه ينطق بالكلمة حتى تعرف أنه يقف ضد المملكة، وإن حاول التجمّل بالعبارات المزخرفة.

الوطنية السعودية ليست شعاراً طارئاً، ولا موجة إعلامية كما يتوهمون، بل هي عقيدة تأسيس، وهي امتدادٌ طبيعيٌّ لروح الدولة منذ أن أعلن الملك المؤسس توحيد البلاد على أساس العدل والتوحيد والاستقرار.

هي التي حافظت على وحدة الأرض والإنسان، ورفعت السعودية إلى مصاف الدول الكبرى في محيطٍ يعجّ بالفوضى والانقسامات.

ومن هنا تأتي حساسية الدفاع عنها؛ لأنها ليست «رأياً سياسياً»، بل ولاء وجودي.

حين يهاجم أحدهم السعوديين ويصفهم بالـ«وطنجية»، فهو لا يدرك أنه يعترف ضمناً بأنه من خارج هذا الوجدان، وأنه لا ينتمي إلى السياق الذي يتحدث عنه، بل إنه يحاول أن يعاقب الآخرين على وطنيتهم؛ لأنه يفتقر إليها.

ولذلك.. فكل مرة يُستخدم فيها هذا المصطلح تُرفع الستارة عن وجهٍ حاقد، وتُسقط الأقنعة التي كانت تُخفي الانتماءات العابرة للوطن.

لقد أصبح هذا المصطلح بمثابة أداة قياسٍ دقيقة لمستوى الولاء والانتماء. من يستخدمه، يكشف نفسه من حيث لا يشعر، ومن يردده، يعلن - بلا تصريح رسمي - انفصاله عن وجدان المجتمع السعودي المتماسك حول قيادته.

إنها كلمة النهاية التي ما بعدها حوار؛ لأن من يزدري وطنه، لا يمكن أن يكون له في النقاش نصيب.

إن المملكة اليوم، وهي تسير بثقةٍ نحو المستقبل تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين، لا تعبأ بمثل هذه الأصوات الصغيرة، لكنها ترصدها لتعرف أين يقف خصومها.

أما المواطن السعودي الحق، فكلما سمع أحدهم يقول «وطنجي»، ابتسم بثقةٍ وقال: نعم.. أنا وطني، وهذه تهمتي التي أفخر بها.

00:30 | 2-11-2025

حين أشرقت الصورة الأولى.. كان سليمان الصالح هناك

رحم الله الشيخ سليمان بن عبدالرحمن الصالح، الرجل الذي مضى في هدوءٍ يليق بالكبار، وترك خلفه سيرةً تُروى بفخر، لا بضجيجٍ ولا ادعاء. كان -رحمه الله- من أولئك الذين يصنعون الأثر بصمت، ويؤمنون أن العمل عبادة، وأن خدمة الوطن رسالة تتجاوز حدود المنصب والموقع.


منذ بدايات البث التلفزيوني في المملكة، يوم 9 ربيع الأول 1385هـ الموافق 7 يوليو 1965م، كان اسمه حاضرًا في المشهد الأول، أول مدير لتلفزيون الرياض، وأحد الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية إيصال الصورة الأولى للوطن إلى أبنائه والعالم. في زمنٍ كان التأسيس فيه مغامرة، والإمكانات محدودة، لكنه بحكمته وإيمانه بالمهمة جعل من الشاشة منبرًا للوعي والهوية والانتماء.


عمل تحت توجيهات الملوك المؤسسين، من عهد الملك سعود -رحمه الله- حتى عهد الملك فيصل -رحمه الله، بإشراف معالي الشيخ جميل الحجيلان، فأسّس فرق العمل، واختار الكفاءات، وبنى من اللاشيء جهازًا إعلاميًا وطنيًا ناضجًا. ومن تلك اللحظة، ارتبط اسمه ببدايات الصورة السعودية الأولى، التي لم تكن مجرد تقنية، بل انعكاسًا لروح وطنٍ صاعد.


ثم مضى إلى ميدان الإدارة والخدمة العامة حين تولّى أمانة العاصمة الرياض، في زمنٍ كانت المدينة تنمو وتتمدّد بسرعة، فكان -كما عرفه كل من عمل معه- إداريًا صارمًا في الحق، نزيهًا في قراراته، يرى في كل تفصيلٍ مسؤولية، وفي كل مشروعٍ أمانة. شهدت الرياض في فترته بدايات التحوّل الحضري المنظم، وتأسست فيها اللبنات الأولى لعاصمةٍ حديثةٍ تليق بمكانة المملكة.


لم يكن يسعى إلى الوجاهة، بل إلى الإتقان. ولهذا ظل اسمه رمزًا للالتزام والانضباط والولاء الصادق لوطنه وقيادته.


وحين انتقل إلى عالم الاقتصاد، حمل معه ذات الروح، فأسس عام 1977م شركة «هلا العربية» لتكون كيانًا سعوديًا رائدًا يجمع بين الإدارة الرشيدة والرؤية الاستثمارية البعيدة. توسعت الشركة في مجالات النقل والخدمات اللوجستية والصناعة، وظلت شاهدةً على عقلٍ إداريٍّ يُوازن بين الطموح والواقعية، وبين الربح والمسؤولية الوطنية.


كان -رحمه الله- صاحب رؤية مالية ناضجة وشهادةٍ علمية من إحدى الجامعات الأمريكية المرموقة، جعلت منه مستشارًا موثوقًا لعددٍ من البنوك المحلية والدولية. لم يكن رأيه يُطلب إلا لثقةٍ في علمه وخبرته، وكان حضوره في المجالس الاقتصادية محل تقدير الجميع.


وتقديرًا لمسيرته ووطنيته، اختير بأمرٍ سامٍ عضوًا في مجلس الشورى، فكان صوته صوت الحكمة، ورأيه رأي التوازن والخبرة، مؤمنًا بأن المشاركة في القرار الوطني شرفٌ ومسؤولية في آنٍ واحد.


رحل الشيخ سليمان الصالح، بعد أن ترك أثرًا لا يُمحى في الإعلام والإدارة والاقتصاد.


رحل جسدًا، وبقيت روحه في كل صورةٍ أشرقت على الشاشة، وفي كل شارعٍ من شوارع الرياض، وفي كل مشروعٍ وطنيٍ حمل بصمته.


كان -رحمه الله- من الذين لم يطلبوا المجد، لكن المجد جاءهم؛ ولم يسعوا للظهور، لكن أضواء إنجازاتهم كشفت عنهم.


نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يجعل ما قدّمه لوطنه في ميزان حسناته، وأن يخلّد ذكره بين الرجال الذين صنعوا فجر هذا الوطن بعملٍ صادقٍ وإيمانٍ لا يلين.

01:17 | 29-10-2025

جيل زد السعودي.. وعيٌ يتجاوز اللحظة

في المملكة العربية السعودية، لم يعد جيل «زد» مجرّد فئة عمرية جديدة؛ بل أصبح تحولًا في الوعي الجمعي ومؤشراً على نجاح المشروع الوطني في صناعة جيلٍ يعيش المستقبل منذ الآن، بفضل قيادةٍ آمنت بأن الإنسان هو أعظم استثمارٍ في مسيرة التنمية.

هذا الجيل لم يُولد في فراغ، بل في زمنٍ تتبدّل فيه المعادلات وتُعاد فيه صياغة مفاهيم الهوية والنجاح والولاء والانتماء.

لقد نشأ وهو يرى وطنه يتغيّر، يتقدّم، ويصنع لنفسه مكانة عالمية جديدة عبر «رؤية 2030»، فانعكس ذلك عليه تفكيراً وسلوكاً وثقة.

هو جيلٌ لم يُربَّ على التبعية للفكر غير السعودي، بل على الاستقلال في الرأي والاعتزاز بمرجعيته الوطنية والفكرية.. جيلٌ وُلد ليشارك، لا ليُقاد، وليفكر، لا ليتلقى.

العلاقة بين هذا الجيل ودولته تتجاوز الإطار التقليدي بين الحاكم والمواطن؛ إنها شراكة ثقة ومسؤولية مشتركة.

فحين يرى الشاب السعودي أن الدولة تفتح أمامه آفاق التمكين والتعليم والعمل والإبداع، يدرك أن الثقة ليست شعاراً بل واقعٌ يُبنى كل يوم.

هذه الثقة المتبادلة هي التي صنعت جيلاً وطنياً واعياً، يعرف أن الانتماء لا يعني الانغلاق، وأن الأصالة لا تتناقض مع الحداثة.

جيل زد السعودي هو الجيل الذي يوازن بين التقنية والهوية، بين الانفتاح والانتماء.

يتقن لغات العالم، لكنه يحتفظ بلهجة الولاء الأولى.

يدرك أن قوته ليست في تقليد الخارج، بل في صياغة نموذج سعودي متفرّد للحداثة المسؤولة.

هو جيلٌ يتصدى لمحاولات الاختراق الثقافي والفكري التي تستهدف التشكيك أو التهوين من المنجز الوطني، ويملك من الوعي ما يجعله خط الدفاع الأول في الفضاء الرقمي.

إن الرهان الذي وضعته القيادة السعودية على هذا الجيل ليس مجاملة عاطفية، بل قراءة إستراتيجية للمستقبل.

فمن يملك وعي الشباب يملك الغد، ومن يبني الثقة مع مواطنيه يبني دولة لا تهزّها العواصف.

جيل زد السعودي اليوم لا يكتفي بأن يكون حاضراً في المشهد، بل هو المشهد نفسه.. جيلٌ يرى في وطنه مشروعه الأكبر، وفي قيادته رفيق رؤيته، وفي الثقة المتبادلة بينهما أعظم استثمارٍ للمستقبل.

00:03 | 26-10-2025

الأمير محمد بن سلمان.. قالها ومضى بها

في عالمٍ تتكاثر فيه الوعود، وتختفي عند أول اختبار، جاء الأمير محمد بن سلمان ليكسر هذه القاعدة، لا بشعارٍ ولا بخطابٍ، بل بصدق القول الذي يتحوّل إلى فعلٍ يكتبه الزمن في سجل القيادة والتاريخ.
لم يكن كلامه ترفاً سياسيّاً ولا حماسةً عابرة، بل رؤية تمشي على قدمين.
قال: «لن نضيع ثلاثين سنة من حياتنا في التعامل مع أفكار متطرفة»..
ومضى بها، فاجتثّ جذور التطرّف من المجتمع، حتى أصبحت السعودية الجديدة نموذجاً للانفتاح الواعي والاعتدال الحقيقي، لا بالانبهار بالغرب، بل بالثقة في الذات السعودية.
قال: «طموحنا أن ننافس على مستوى العالم»..
ومضى بها.. فصارت الرياض عاصمة القرار والسياحة والفن والذكاء الصناعي.
صارت وجهة يقصدها المستثمر، ومسرحاً تصفّق له الجماهير، ومركزاً تتقاطع عنده القارات والفرص.
لم يعد الطموح أمنية، بل خطة عمل تُنفّذ بدقة رجل الدولة.
قال: «لن ينجو أي فاسد كائناً من كان»..
ومضى بها.. فكانت نزاهة لا تعرف المحاباة، وسيف عدلٍ لا يرتجف أمام الأسماء ولا المناصب.
تحوّل الخوف من الفساد إلى خوف من النزاهة نفسها؛ لأن العدالة في هذا العهد لم تعد شعاراً يُرفع، بل قاعدة تُطبَّق.
قال: «أنا أعيش بين شعب عظيم، وهم سر قوتي»..
ومضى بها.. فحرّك روح الإنجاز في كل بيت، وجعل المواطن شريكاً في الرؤية، لا متفرجاً عليها.
ارتفع سقف الطموح لأن القائد أقنع الناس أن المستحيل يمكن أن يُدار.. لا أن يُدير.
قالها ومضى.. ولم تكن صدفة أن تمضي بها دولة بحجم قارة.
فكلّ جملة من فمه خارطة طريق، وكلّ وعدٍ منه موعد مع الواقع.
من «رؤية 2030» إلى «نيوم» و«الدرعية» و«المربع الجديد» و«القدية» و«ذا لاين»، كلها تجسيد عبارة واحدة: «نحلم لنحقق.. لا لنحكي»..
قالها ومضى بها..
ومضت معه أمّةٌ نحو المستقبل الذي وعد به، وصنعه بيديه.
00:21 | 19-10-2025

نظرية المؤامرة بين المطرقة والسندان

تتكاثر الأصوات العالية أكثر من الحقائق، وتتناسل الأخبار بسرعة الضوء، وتقف نظرية المؤامرة بين مطرقة الشكّ وسندان الحقيقة.

إنّها ليست فكرةً جديدة وُلدت مع الإنترنت، بل هي ظاهرة قديمة قِدم الإنسان نفسه.. تولد من رحم الخوف، وتعيش على غموض الأحداث، وتنتعش حين يختفي الضوء في كواليس المعلومة.

منذ العصور الأولى، كان الإنسان إذا عجز عن تفسير ما يجري حوله، لجأ إلى تصوّر «يدٍ خفيّة» تُحرّك الأمور من وراء الستار. فالعقل البشري يكره الصدفة، وينفر من العبث، ويجد راحته في وجود «فاعلٍ» لكلّ ما يحدث، حتى لو كان هذا الفاعل مجهولاً أو متخيّلاً.

هكذا ولدت نظرية المؤامرة كاستجابةٍ نفسيةٍ قبل أن تكون فكرة سياسية أو إعلامية.

لكنها لم تكن دائماً شرّاً خالصاً..أحياناً كان الشكّ نعمةً، ومن دون هذا الشكّ ما اكتُشفت الجرائم، ولا انكشفت الخيانات، ولا انهارت الأنظمة الفاسدة.

غير أن الخطر يبدأ حين يتحوّل الشكّ إلى يقينٍ مَرَضيّ، يرى في كل شيء مؤامرة، وفي كل نجاحٍ يداً خفية، وفي كل مصادفةٍ ترتيباً مقصوداً.

هنا يتحول الإنسان من باحثٍ عن الحقيقة إلى أسيرٍ للوهم، ومن متأمّلٍ في الأحداث إلى منساقٍ خلفها بلا وعي.

في عصرنا الرقمي، تغيّر وجه المؤامرة جذرياً.. لم تعد قصةً تُروى في المجالس، بل صناعةً معقّدة تُدار بذكاء، وهناك من يكتب الرواية، ومن يموّلها، ومن يضخّها في الفضاء الإلكتروني عبر آلاف الحسابات والمنصّات.

هناك خوارزميات تدفع بالمعلومة المضللة لتصبح «ترنداً»، وجيوش إلكترونية تخلق الإجماع الزائف، ومؤثرون يُعيدون إنتاج الشكّ بثوبٍ أنيقٍ من التحليل «الخبير».

لقد انتقلت المؤامرة من الظلّ إلى الضوء، لكنها بقيت مظلمة في جوهرها.

اللافت أنّ نظرية المؤامرة صارت بدورها أداةً للمؤامرة نفسها!! تُستخدم لتشويه الحقائق أو إسكات الأصوات أو صناعة أعداء وهميين.

من السهل اليوم أن تتهم أيّ رأيٍ معارض بأنه جزء من مؤامرة، كما يسهل أن تُشيطن المؤسسات الوطنية أو القرارات السياسية تحت نفس المبرر، وهنا تكمن المفارقة الكبرى: المؤامرة التي كانت في الأصل بحثاً عن «الفاعل الحقيقي» أصبحت سلاحاً يُستخدم ضد الحقيقة ذاتها.

ولفهم سرّ جاذبيتها، علينا أن نسأل: لماذا نُصدّقها رغم هشاشتها؟

لأنها تُريحنا!!

الحقيقة دائماً معقّدة، مليئة بالتفاصيل الرمادية، بينما المؤامرة تُقدّم تفسيراً بسيطاً وجاهزاً.. هناك من يُخطّط ضدّنا وتُعفينا من عناء التفكير، وتمنحنا شعوراً زائفاً بالفهم والسيطرة. إنها تروي حكايةً مثيرة تجعلنا أبطالاً في مواجهة «عالمٍ شرير»، حتى لو كان هذا العالم من نسج الخيال.

ومع ذلك، لا يمكن أن نُسقطها كلياً من قاموس الواقع، فالتاريخ مليء بالمؤامرات الحقيقية: انقلاباتٌ سريّة، تحالفاتٌ خفيّة، عملياتٌ استخباراتية، وتلاعبٌ بالرأي العام.

لكنّ الفرق بين الحقيقة والوهم هو الأدلة، وليس حجم الضجيج.

من يسير على خطّ الوعي يدرك أنّ الشكّ ليس إيماناً بالمؤامرة، بل وسيلةٌ لكشفها إن وُجدت.

أما من يسقط في فخّها فيحوّل الشكّ إلى صنم جديد، يعبده دون منطق.

اليوم، يعيش العالم على إيقاع أزمة الثقة.. ثقةٌ مفقودة بالإعلام، بالسياسيين، وحتى بالعلماء.

وكلّما انهارت هذه الثقة، ازداد عطش الناس لتصديق أيّ روايةٍ بديلة، مهما كانت عبثية.. فحين يفقد الإنسان ثقته بالمصدر الرسمي، يُصبح مستعداً لتصديق «العابث» الذي يهمس له في زاوية مظلمة من الشبكة.

وهكذا تتحول نظرية المؤامرة من «تفسيرٍ للأحداث» إلى بديلٍ عن الواقع نفسه.

الدهشة أن بعض الأنظمة والأطراف تستغلّ هذه النظريات عمداً وتُطلق شائعة، ثم تُنكرها، ثم تدير فوضى الشكّ التي تليها لتُضعف وعي الجمهور. إنه أسلوب قديم يُسمّى «الفوضى المنضبطة»، حيث يُترك الناس يتخبطون بين المطرقة والسندان حتى يفقدوا القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال. وحينها، يصبح من السهل توجيههم نحو أيّ روايةٍ تُريدها الجهة التي تملك المعلومة والمال والمنصّة.

أخيراً، لا يمكننا أن ننكر أنّ العالم مليء بالمصالح المتقاطعة، وأنّ «النية الخفية» ليست خرافة دائماً، لكن الوعي هو الفاصل بين من يرى الظلال ويظنها أشباحاً، ومن يدرك أن الضوء نفسه قد يُخفي خلفه غرفةً مظلمة. نظرية المؤامرة بين المطرقة والسندان هي معركة الإنسان الدائمة بين الخوف والعقل، بين الحاجة للتفسير والرغبة في الأمان.

الناجون من هذا المأزق ليسوا أولئك الذين يرفضون المؤامرة أو يقدّسونها، بل الذين يملكون القدرة على التفكير المتزن.. لا يصدقون كل شيء، ولا يكذّبون كل شيء، بل يمشون على الحبل الرفيع بين الشكّ واليقين، حاملين وعيهم كدرعٍ ضدّ المطرقة، وحقيقتهم كسندانٍ يثبتهم وسط العاصفة.

ففي زمنٍ لم يعد العدوّ فيه يختبئ في الكهوف، بل في العقول، يصبح التفكير النقديّ هو آخر أشكال النجاة من مؤامرةٍ أكبر من أن تُرى.
00:01 | 12-10-2025