ليست كل الدول تتكوّن من جغرافيا، فبعضها يُصاغ من رسالة، وبعضها من اختبارٍ إلهي يضعها في مركز التاريخ لتكون شاهدةً على معنى الثبات وسط العواصف.
والمملكة العربية السعودية واحدة من تلك الكيانات النادرة التي لا يمكن تفسير وجودها بمعادلات السياسة وحدها؛ لأن نشأتها لم تكن فعلَ توسّعٍ ولا إرثاً استعمارياً، بل كانت حالة نهوضٍ من رحم الاضطراب إلى رحابة النظام، ومن رمالٍ ممزقة إلى كيانٍ يتكئ على عقيدةٍ واحدة ودستورٍ من السماء.
منذ أن أطلّ فجر التوحيد على يد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيّب الله ثراه- والعالم يراقب تجربة مختلفة تماماً:
دولة قامت على الشرعية الدينية والسياسية معاً، فجمعت بين ما فرّقته الأمم، ونجحت في أن تجعل من العقيدة مشروع بناء، لا شعاراً يُرفع في المساجد فقط.
ولذلك لم يكن غريباً أن تتحوّل المملكة إلى محورٍ عالمي، يُقاس موقف كل دولةٍ من العالم العربي و الإسلامي بمدى قربها أو بعدها من الرياض.
لكن كل نهضةٍ عظيمة تُولد معها حاقدين بحجمها، فكما تُنبت الأرض الخصبة سنابلها، تُثير في الوقت ذاته غيرة الصخور العقيمة من حولها.
ولأن السعودية حملت شرف خدمة الحرمين الشريفين، كان من الطبيعي أن تتكاثر حولها أصوات الحقد والشك، تارةً باسم الدين، وتارةً باسم السياسة، وأحياناً باسم «حقوقٍ» يطالب بها من لا يحترم حقّ الله في الحقيقة.
إن المملكة لم تدخل مرحلة البناء من فراغ، بل من تاريخٍ طويل من الاستهداف، ومن محاولاتٍ متكرّرة لزعزعة مكانتها الرمزية في العالم الإسلامي.
ومع ذلك، فإن ما يميّز هذه الدولة أنها لا ترد على أعدائها بالصوت، بل بالإنجازات.
تتقدّم خطوةً في الاقتصاد، وخطوتين في الثقافة، وثلاثاً في السياسة، حتى صار خصومها أسرى لردّات فعلٍ دائمة، لا يمتلكون فيها زمام المبادرة ولا حتّى القدرة على الفهم.
اليوم، في زمن الرؤية والطموح، تتجلّى الحقيقة بوضوحٍ أكبر:
السعودية لم تعد فقط مركز الإسلام، بل أصبحت مركز القرار العالمي الجديد.
هي الدولة التي تتحدث بثقةٍ في الملفات الكبرى: من الطاقة إلى السلام، من البيئة إلى الذكاء الاصطناعي، من مستقبل المدن إلى مستقبل الإنسان نفسه.
وما يثير دهشة العالم هو أن هذا الصعود المتسارع لم يفقدها جذورها، بل زادها التصاقاً بمرجعيتها الأولى: الكتاب و السنة.
فهي لا ترى في الحداثة تناقضاً مع الإيمان، بل استمراراً له في شكلٍ مدنيٍّ متقدّم.
ولعلّ سرّ هذه القوة يكمن في معادلة القدر والطموح، فهي تعرف أن الحسد قدرٌ لا يُلغى، وأن الهجوم ثمنٌ للريادة، لكنها في المقابل تعرف أن التاريخ لا يحفظ إلا من يعمل، وأن من خدم الحرمين الشريفين بحقّ، يخدم الإنسانية كلّها.
وهذا الوعي هو ما جعل المملكة لا تنشغل بالخصومات الصغيرة، بل تصنع حولها فضاءً من المبادرات الكبرى:
رؤية 2030، مبادرات الشرق الأوسط الأخضر، التحولات الثقافية والفنية، مشاريع النيوم والبحر الأحمر، وحتى الدور الإنساني الذي تمتدّ أذرعه لجميع الأمصار.
إن من أراد أن يفهم السعودية عليه أن يدرك أنها لا تسير على هوى اللحظة، بل على إيقاع الرسالة.
ومن أراد أن يفسّر عظمة موقعها الجغرافي فعليه أن يقرأ تاريخها السياسي، ومن أراد أن يهاجمها فليستعد ليصطدم بثباتٍ لا يلين.
فهي لا تُحارب لتُثبت وجودها، بل لتصون معناها، وهذا هو الفرق بين الدول العابرة، والدول التي تُخلّد.
قدَر السعودية أن تظلّ في الواجهة، وقدَر خصومها أن يظلّوا خلفها يفسّرون نجاحها بتآمرٍ لا وجود له إلا في عقولهم.
فالدولة التي جمعت بين الحرمين، والتوحيد، والرؤية، لا تخشى شيئاً؛ لأنها تعرف من أين جاءت وإلى أين تتجه.
هي تعرف أن الله إذا شَرَّفَ أرضاً بخدمته، ابتلاها بالعظمة، وأحاطها بالأضداد لتزداد ثباتاً.
تلك هي المملكة العربية السعودية:
ليست مجرد دولةٍ في التاريخ، بل قدرٌ يمشي فوق الأرض بثقةٍ من السماء.