-A +A
م. ثامر الحربي

أستطيع القول إن السعودية اليوم تعيش على مستوى أفرادها ومختلف قطاعاتها «الحكومية، والخاصة، والقطاع الثالث غير الربحي» مجموعة من المتغيرات الحيوية المتعلقة بنمط مختلف من الأداء التواصلي التشاركي الذي لم تعهده بهذا الإطار الكلي منذ عقود من تاريخها الحديث، وهو المرتبط بمنظومة «التواصل عن بُعد» سواءً في ممارسة الأعمال أو تلقي الطلبة لدروسهم عبر الفصول الدراسية الافتراضية، أو التأهيل الرقمي. المتغيرات التي تعيشها المملكة وأغلب دول العالم وضعت الجميع أمام منصة اختبار حقيقية قائم على أهمية التخلي عن «التواصل التقليدي» الذي ألفته الأجيال المتعاقبة من المجتمع، لصالح ما يعرف بـ«التواصل الافتراضي عن بُعد»، ويكفي أن نورد هنا معلومة تقنية على الطاير إن صحت العبارة- توضح أبعاد هذه المسألة الحيوية، وهي أن عدد مستخدمي تقنيات Microsoft Teams تجاوز اليوم الـ 44 مليون مستخدم، فيما بلغ معدل اجتماعاتهم اليومية 900 مليون دقيقة. وإذا ما وضعنا الرقم تحت دائرة «التحليل المنهجي»، سيعي العالم أنه مقبل على عالم جديد، وهو ما يُحتم بذل مزيد من الجهود التوعوية الافتراضية المهنية لفهم تفاصيل هذا النمط الجديد من إدارة التواصل عن بُعد.

المشهد الافتراضي في «تويتر» والذي يمثل رئة السعوديين الإلكترونية يحتاج هو الآخر إلى قراءة مفصلة مفادها وجود الرغبة التقنية المتأصلة في الأفراد والمجموعات التشاركية لممارسة التواصل أو العمل عن بُعد، وهو ما ظهر جليًا في مجموعة هاشتاقات أتمنى تحليلها من قبل الجهات المتخصصة لفهم كيفية تعاطي المجتمع عمومًا مع هذا النمط الجديد الذي فرضته المتغيرات الراهنة، وكان من بين أشهر تلك الهاشتاقات #شاركنا_العمل_عن_بُعد، و#حول_عالتقنية و #كلنا_مسؤول والتي أشرت إلى بعضها على حسابي الشخصي (@tmalharbi).

وللأمانة قدمت المواقع المتخصصة المعنية بتطور أداء التواصل عن بُعد، قراءات وتحليلات عميقة تجاه ذلك، لكن من أفضل ما ذكر في هذا السياق، ما أوردته مجلة الإدارة الشهيرة «هارفارد بزنس ريفيو» المملوكة لجامعة هارفارد العريقة التي استطاعت اختزال المشهد الراهن بـأنه «ولادة نماذج عمل جديدة في إدارة الفرق الافتراضية المهنية أو الدراسية، لم تعهدها الحكومات أو شركات القطاع الخاص أو المؤسسات التعليمية من قبل»، وهو ما سيضعها في ظني أمام متغيرات مستقبلية إيجابية ستخلق مزيدًا من الإبداع من جانب جودة المخرجات المتوقعة. واتفق تمامًا مع الآراء التي تذهب إلى أن الانتقال من التواصل التقليدي إلى التواصل من خلال الأتمتة التقنية لن يكون سهلًا وميسرًا، فهو يحتاج أولًا كما ذكرت سابقًا إلى إدراك وإيمان من قبل صانعي القرار في المنشآت والمؤسسات، بأهمية ذلك، فمن دون ذلك ستُجهض التجربة حتى ولو فرضتها المتغيرات، ويتمثل العامل الثاني في مواصلة تدريب الأفراد على العمل أو التعليم عن بُعد ومساعدتهم على تهيئة منازلهم لتكون بيئتهم الجديدة، التي ستعينهم على الإبداع بكافة مساراته وتفاصيله.

الملفت في التجربة السعودية هو دعم القيادة الرشيد الكبير لمنظومتي «العمل والتعليم عن بُعد»، وهما خطوتان رئيسيتان داعمتان لمخرجات الخطة الثالثة لإستراتيجية التحول الرقمي السعودية (2019-2022)، كما أنها تتقاطع مباشرة مع مستهدفات الرؤية الطموحة (2030) التي أولت للمسار الرقمي أهمية كبرى في تحسين منظومة ما يعرف بـ «الاقتصاد المعرفي».

ومن الملامح السعودية الداعمة للتحول الرقمي، التعاون الحاصل بين مايكروسوفت العربية وبرنامج التعاملات الإلكترونية الحكومية (يسّر)، الذي أتاح لمختلف الجهات الحكومية الخدمية والتعليمية مجموعة من الحلول المجانية لتمكينهم من ممارسة «العمل عن بُعد»، ومساعدتهم في أداء مهامهم وفق أفضل المعايير العالمية.

ولم يعد التحول الرقمي في السعودية مجرد حلم بعيد المنال، فهناك أكثر 3,300 خدمة رقمية حكومية متوفرة على المنصة الوطنية، وهو ما يُحقق مستهدفات برنامج رؤية 2030 التنفيذي «التحول الوطني» الهادف إلى وضع المملكة ضمن مصاف الدول المتقدمة رقمياً.

وأما الجامعات السعودية فقد قدمت نموذجًا ناجحًا هي الأخرى في تعزيز «العمل والتعليم عن بُعد» من خلال استخدام الأداة التشاركية Microsoft Teams فجامعة طيبة بالمدينة المنورة – على سبيل المثال لا الحصر- عممت استخدام البرنامج على موظفيها وأعضاء هيئة تدريسها وطلابها وطالباتها، وهو ما يمكّن المدرسين من إنشاء الفصول الدراسية، والطالب من الالتحاق بها، وسهّل عليهم حضور المحاضرات وتسجيلها ومشاركة المحتوى والملفات، بل والسماح لأعضاء هيئة التدريس بتوزيع وتحويل مهام طالب الصف الدراسي عبر الفرق باستخدام تبويب الواجبات، واستضافة مؤتمرات الصوت والفيديو مع أي شخص داخل المؤسسة أو خارجها، وساعد الموظفين في عقد اجتماعاتهم الموسعة. هذه المنظومة التواصلية التشاركية عن بُعد ليست مجرد تقنية باهته تمارس في العالم الافتراضي، بل يمكن القول وبكل تأكيد إنها أسهمت في صناعة جيل جديد من السعوديين والسعوديات الذين سيغيرون من القواعد الروتينية التي تعوّدوا أو تعود أسلافهم عليها لسنوات ليست بالقليلة.

ومن وجهة نظري التخصصية، لم تصبح التقنية محصورة في التعليم أو العمل، بل دخلت إلى منظومة التدريب والتأهيل؛ لتنمية المهارات المهنية للأفراد للحصول على الوظائف المستقبلية، وأشير هنا إلى مبادرة «مهارات المستقبل» التي تقوم عليها مشكورة وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات بتوفيرها 8000 فرصة تدريبية في أكثر من 100 مجال ستقدم عبر «الفصول الافتراضية، ودورات التدريب الرقمية»، وتشمل «علم البيانات، وتطوير المواقع والتطبيقات، وتطوير الألعاب، وذكاء الأعمال، وإدارة وتحليل المنصات الإلكترونية، وأساسيات البرمجة، والبيانات الضخمة، وتكامل وتحليل البيانات، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي، وأمن المعلومات، وإنترنت الأشياء، والبلوك تشين، والحوسبة السحابية».

ولم يعد «التواصل التشاركي عن بُعد» مجرد ترفيه أو أحد أشكال الديكورات التقنية، بقدر ما أضحى ضرورة تكنولوجية أثبتت فعاليتها ومرونتها، وتوفيرها للوقت والمال، كما أثبت انتقال المؤسسات لها قدرة استمرار كوادرها المهنية والتدريسية والخدمية في رفع مستوى الإنتاج العام وخدمة عملائهم في أي وقت ومكان، والأهم من ذلك قدرتهم على ابتكار مشاريع جديدة تتواءم مع هذا النمط العملي الذي وسع من مداركهم المعرفية، وهو ما ستثبته الأيام القادمة.

ومن أهم ما قرأت في هذا الجانب المقال المشترك المنشور في أكتوبر الماضي (2019)، بعنوان "هل حان الوقت للسماح للموظفين بالعمل من أي مكان" ؟ وشارك في إعداده ثلاثة من أهم المتخصصين، وهم «بريثويراج تشودري» الحاصل على درجة الدكتوراه من كلية هارفارد للأعمال، و «باربرا لارسون» المعنية بالمهارات الشخصية والاجتماعية للأفراد للعمل بفاعلية في البيئات الافتراضية، و«سيرغي فوروفي» المعني بتقنية المعلومات ومستقبل العمل، وكان من أهم ما جاء في المقال "على الرغم من شيوع العمل من المنزل (WFH) نسبيًا، فقد ظهر نوع جديد من العمل عن بُعد وهو: العمل من أي مكان (WFA) حيث يمكن للموظفين العيش والعمل في المكان الذي يفضلونه ومن أي مكان في العالم تتوافر به إمكانية الاتصال بالإنترنت".

وأخيرًا.. موقن تمام الإيمان بأن طريقة العمل اليومية ستتغير بشكل متسارع مع تبني مسار منظومة «التواصل عن بُعد»، وهو ما سينعكس على سطوع رؤى جديدة على كل شيء بدءًا من جدولة الاجتماعات إلى الطرق التي تُدير بها الفرق أعمالها، وشعارها الدائم #حول_عالتقنية.

- رئيس مايكروسوفت العربية