-A +A
صالح بن محمد الخثلان
في شهر يوليو الماضي سلم مندوب روسيا الاتحادية في الأمم المتحدة أمينها العام نسخة من مبادرة الأمن الجماعي في الخليج العربي، وخلال الشهر نفسه عقد المبعوث الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف في موسكو اجتماعاً مع رؤساء البعثات الدبلوماسية للدول العربية وإيران وتركيا والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة لممثلي دول مجموعة البريكس من أجل التعريف بالمبادرة والترويج لها.

ومتوقع أن تكون المبادرة التي تعرف باسم مفهوم الأمن الجماعي للخليج «الفارسي» في مقدمة ملفات الدبلوماسية الروسية خلال الأشهر القادمة؛ خاصة مع تولي روسيا رئاسة مجلس الأمن هذا الشهر. وتطرح روسيا المبادرة من منطلق أنها دولة كبرى معنية كغيرها من الدول الكبرى بأمن هذه المنطقة الحيوية من العالم. وترى روسيا في هذه المبادرة وسيلة لتحسين صورتها لدى الرأي العام العربي والتي تضررت كثيراً بسبب الدمار الشامل الذي تسببت فيه في سوريا وقضائها على آمال الشعب السوري في التحرر من الاستبداد الذي يعانيه لأكثر من خمسة عقود. روسيا تريد أن تقدم نفسها كقوة كبرى حريصة على الأمن والاستقرار الدوليين وتمارس دوراً مسؤولاً على الساحة الدولية، ولكن لن يكون سهلاً إزالة صورة القوة المتوحشة التي تشكلت عنها لدى الرأي العام العربي.


توقيت طرح المبادرة قد يكون أيضاً مرتبطاً بالحديث المستمر في واشنطن عن الرغبة في الانسحاب وعدم الاستمرار في لعب دور «الضامن للأمن في الخليج العربي» وهو ما شجع الدبلوماسية الروسية للتحرك كونها تتجنب تاريخياً الدخول في منافسة مع الولايات المتحدة في إحدى مناطق نفوذها الحيوي. من جانب آخر فإن الإعلان عن السعي نحو تشكيل حلف شرق أوسطي جديد وكذلك الرغبة في تشكيل قوة دولية لحماية أمن الملاحة في الخليج قد يكون دافعاً للتحرك الروسي بهدف طرح بديل لا يسمح لواشنطن بالاستفراد بالإقليم.

أياً كانت الأسباب التي دعت روسيا لطرح المبادرة في هذا التوقيت، فإن لهذا التوقيت أثره السلبي على الموقف منها خاصة بالنسبة لدول الخليج؛ فهو يأتي في وقت «تكشر» إيران عن أنيابها باستهداف أمن الخليج وتوجيه ميليشياتها في اليمن والعراق لممارسة دور تخريبي كرد فعل على العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي بدأت تظهر آثارها على الوضعين الاقتصادي والسياسي. ولذلك نجد أن إيران كانت أول الدول التي رحبت بالمبادرة الروسية التي تحقق مطلباً ثابتاً لإيران والمتمثل في إخلاء الخليج العربي من الوجود العسكري الأجنبي ويقصد بذلك تحديداً التواجد العسكري الأمريكي.

الغاية الأساسية للمبادرة هو إنشاء منظمة للأمن والتعاون في الخليج مماثلة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي تتكون عضويتها من دول الخليج العربية وإيران وروسيا والولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي والهند بالإضافة إلى دول أخرى بصفة مراقب. وترى موسكو أن نظام الأمن المقترح يتسم بالشمولية فلا يستثني أياً من دول المنطقة ويستند على المصالح المشتركة في تحقيق الاستقرار والتعاون ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.

المبادرة ليست جديدة فقد سبق طرحها في نهاية التسعينات، لكنها لم تلق أي اهتمام آنذاك، وتعيد موسكو اليوم طرحها بنسخة معدلة وترى أن الظروف الراهنة ستقنع الأطراف المعنية بالتعاطي الجاد معها. ولكن وباستثناء إيران والصين لم تعلن أي دول خليجية أو دولة معنية بأمن الخليج موقفاً واضحاً من المبادرة.

وتقوم المبادرة على جملة من المبادئ من أبرزها: الالتزام بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة واحترام السيادة وحرمة الحدود القائمة واحترام الوحدة الإقليمية لكل دولة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وتحريم استخدام القوة واللجوء للحل السلمي للخلافات واحترام مصالح جميع الأطراف الإقليمية وغيرها من الأطراف المعنية.

وتتسم المبادرة بالتدرج فتبدأ بمشاورات ثنائية ومتعددة الأطراف بين أصحاب المصلحة في الخليج بمشاركة دول شرق أوسطية ومجلس الأمن وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومجلس التعاون لدول الخليج العربية. كما تقتضي المبادرة تفعيل إجراءات بناء الثقة التي تعد شرطاً ضرورياً لإحراز أي تقدم في المبادرة، لكنه الشرط الأصعب بالنظر إلى تاريخ الصراع في الخليج إضافة إلى فشل جهود سابقة في بناء الثقة خاصة بين إيران والدول العربية الخليجية. وتتكون المبادرة من العناصر التالية:

(1) التخلي عن استخدام القوة واحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها والالتزام بالتفاوض لتسوية الخلافات الحدودية. (2) الشفافية في تبادل المعلومات في المجال العسكري، وإجراء حوار حول العقائد العسكرية، وعقد اجتماعات دورية لوزراء الدفاع، وإنشاء خطوط اتصال ساخنة، والإحاطة بشأن المناورات العسكرية، وتبادل المعلومات المتعلقة بشراء الأسلحة، وعدم إقامة قواعد عسكرية أجنبية. (3) توقيع اتفاقيات بشأن الحد من الأسلحة وإنشاء مناطق منزوعة السلاح وحظر تكديس الأسلحة التقليدية المهددة للاستقرار بما في ذلك أسلحة الدفاع الصاروخي وخفض القوات المسلحة. (4) العمل على جعل الخليج منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل. (5) إبرام اتفاقيات بشأن مكافحة الإرهاب والاتجار غير المشروع بالأسلحة والهجرة غير القانونية والاتجار بالمخدرات والجريمة المنظمة.

وبعد اتخاذ هذه الخطوات تقترح المبادرة البدء في تقليص الوجود العسكري الأجنبي تمهيداً للوصول إلى الهدف المركزي للمبادرة وهو إنشاء منظومة أمن إقليمي باسم منظمة الأمن والتعاون في الخليج «الفارسي» على غرار منظمة الأمن والتعاون الأوروبية.

وهنا تتبين المشاكل التي تقع فيها المبادرة رغم ما تتضمنه من أفكار جيدة. فهي أولا تبنت الرؤية الإيرانية بتسمية المنظمة المقترحة بالخليج الفارسي؛ فمجرد استخدام هذه التسمية يضع عائقاً أمام قبول الدول العربية للمبادرة. إضافة إلى ذلك يعيب المبادرة «استنساخها» تجربة أوروبية ولدت في ظروف مختلفة كلياً عن الظروف التي تعيشها منطقة الخليج العربي. فمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي التي ظهرت في منتصف السبعينات ولدت في منطقة لم تكن تعاني وقتها صراعاً مسلحاً، رغم أنها كانت تعيش أجواء الحرب الباردة، إلا أن تلك الأجواء كانت أخف بكثير مقارنة بوضع يشهد أعمالا عسكرية تخريبية من إيران ضد دول الخليج سواء بتهديد الملاحة أو توظيف المليشيات في العراق واليمن وكذلك العناصر الإرهابية في عدد من دول الخليج.

إذاً نحن في الخليج أمام حالة مختلفة جذرياً تجعل فرص تحول المبادرة إلى واقع ملموس قليلة جداً. وقد زاد هذا الواقع تعقيداً خلال السنتين الماضيتين نتيجة الأزمة القطرية وتأسيس تركيا وجوداً عسكرياً لها في الخليج لأول مرة بعد سقوط الخلافة العثمانية. من عيوب المبادرة أيضاً تركيزها على قضية مكافحة الإرهاب كهدف أساسي، ورغم أهمية هذا الهدف، إلا أنه يكشف تفضيل المبادرة لأولويات الدول الكبرى على حساب أولويات دول الخليج المعنية أصلاً بالمبادرة. فبالنسبة لهذه الدول فإن الاعمال التخريبية التي تقوم بها الميليشيات الطائفية تعد التهديد الأول لأمنها وهو ما تتجاهله المبادرة. فقد تكررت مفردة الإرهاب ثماني مرات مقابل إشارة واحدة عريضة ومتوارية لقضية التدخل في الشؤون الداخلية.

من النقاط المهمة التي تتجاهلها المبادرة موقع مجلس التعاون منها؛ فهل يعني إنشاء منظمة الأمن الجماعي المقترحة أنها ستكون بديلاً عنه ما يقتضي حل المجلس وهو مطلب إيراني، وهل ستقبل دول المجلس هذا الخيار؟ أم هل ستسمح المبادرة ببقاء المجلس في وضع شبيه بأوروبا حيث توجد منظمة التعاون والأمن الأوروبي جنباً إلى جنب مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي؟ ومن العيوب الأخرى التي تعاني منها المبادرة أنها تبدأ بالمسائل الأكثر حساسية والأصعب بحثاً مثل تبادل المعلومات حول القدرات العسكرية ما يزيد من صعوبة قبولها.

ومن العوامل التي قد تضعف مستوى الاستجابة للمبادرة والجدية في التعاطي مع المبادرة عدم وجود تجربة سابقة تثبت نجاح الدبلوماسية الروسية في حل صراعات إقليمية، ولعل الوضع في سوريا وأوكرانيا أبرز شاهد على ذلك.

أخيراً نقول إن دول مجلس التعاون وفي مقدمتها المملكة حريصة على أي مشروع أو مبادرة تسهم في تحقيق الأمن والاستقرار لكافة دول الخليج، ولذلك ستكون منفتحة على المبادرة الروسية دون إعلان موقف مباشر منها قبل استيضاح الكثير من النقاط المبهمة. وقد تجد هذه الدول ومن زاوية تعميق التشاور السياسي مع روسيا حول القضايا المشتركة ملاءمة المشاركة في الاجتماعات التشاورية حول المبادرة دون إعلان أي التزامات تجاهها.

* أستاذ العلوم السياسية