-A +A
خالد عباس طاشكندي
على طريقة «رمتني بدائها وانسلت»، هاجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فرنسا (الأربعاء) الماضي، على خلفية إحيائها الذكرى السنوية لمذابح الإبادة الجماعية بحق الأرمن على أيدي العثمانيين والتي تصادف يوم 24 أبريل من كل عام، وقال خلال كلمة ألقاها في ندوة حول الأرشيف العثماني «إنه لا يمكن لفرنسا التي قتلت ملايين المسلمين في الجزائر أن تعطي تركيا دروساً في التاريخ، وأن الدول التي تحاول تلقين تركيا دروساً في حقوق الإنسان عبر المزاعم الأرمنية وعلى رأسها فرنسا ماضيها ملطخ بالدماء»، وهو ما يؤكد مرارا أن الرئيس أردوغان حين يتعاطى مع الحقائق التاريخية فهو يتعامل معها وفقاً لمقولة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش «يمكنك خداع بعض الناس كل الوقت، وهؤلاء هم من تود التركيز عليهم».

ولا خلاف على وحشية وبشاعة حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر وما ارتكب خلالها من فظائع ومجازر على مدى 132 عاماً من الاحتلال الغاشم الذي انتهى بالنضال المسلح عبر ثورة التحرير الجزائرية التي راح ضحيتها أكثر من مليون ونصف شهيد وانتهت بإعلان استقلال الجزائر في 5 يوليو 1962، ولكن يجب أن لا نغفل أن السبب الرئيسي في الاحتلال الفرنسي للجزائر هو محتل آخر كان يقبع قبله جاثماً على صدور الجزائريين لثلاثة قرون ولا يقل عن المحتل الفرنسي في وحشيته وهمجيته وطغيانه.


فالرئيس أردوغان حين انتقد الاحتلال الفرنسي للجزائر، تغافل عن ذكر النصف الآخر من الحقيقة التاريخية، فعندما دخل العثمانيون إلى الجزائر عام 1516 كقوة حامية بقيادة الأخوين خير الدين وعروج بربروس، بعد أن استنجد بهم سلطان الجزائر سليم التومي للتصدي ضد الغزو الإسباني، قاموا بخيانته بعد فترة وجيزة من وصولهم، حيث ذهب عروج إلى منزل سلطان الجزائر وقتله بيديه داخل حمام منزله ليعلن نفسه سلطاناً على الجزائر، ثم ذهب إلى تلمسان لطرد الإسبان وبعد أن نجح في ذلك نصب سكان المدينة الجزائري «أبو زيان» حاكما، إلا أن عروج كرر الفعلة ذاتها وقتل «أبو زيان» لينصب نفسه مكانه، ومنذ ذلك الحين مكث العثمانيون في الجزائر نحو 320 عاماً.

ومنذ الأيام الأولى للوجود العثماني في الجزائر تضجر السكان من تعامل الأتراك الفظ معهم، حيث فرضت الأقلية التركية سيطرتها على البلاد، وفرضوا اللغة التركية كلغة رسمية للبلاد وضاعفوا الضرائب على السكان وأبعدوهم تماما عن إدارة الحكم، حيث اقتصرت الفئة الحاكمة على الأتراك من قوات الانكشارية الذين قاموا بحرمان الجزائريين من جميع المناصب الإدارية في الدولة، وحتى «الكراغلة» وهم أبناء الجنود الانكشاريين من نساء جزائريات، أيضاً لم يسلموا من سياسة العنصرية والإقصاء، وهو ما تسبب في العديد من الثورات الشعبية ضد الحكم العثماني الذي فرض نفسه بالحديد والنار، وعلى مدى ثلاثة قرون لم يهتم العثمانيون بتنمية الجزائر بقدر اهتمامهم بجمع الضرائب، ولم يشيدوا أي مستشفى ولم تكن هناك مهنة للأطباء، فكان الجزائريون يتداوون عند الحلاقين بالكي بينما كان لدى السلطات العثمانية أطباء يحملون مسمى «جراح باشي» للعناية بالانكشاريين فقط، وكذلك لم يهتموا بالتعليم، وكانت دور العلم تبنى من واردات أوقاف أصحابها من السكان الأصليين، وكان ميسورو الحال من أبناء الجزائر يرحلون إلى خارج البلاد للحصول على العلم، في المغرب وتونس ومصر والحجاز.

وبعد ثلاثة قرون من الاحتلال العثماني للجزائر، وقعت حادثة مفصلية في تاريخ الجزائر ودفعتها نحو منعطف أشد وطأة، وهو ما يعرف تاريخيا بـ «حادثة المروحة» بتاريخ 29 أبريل 1827، وكانت عبارة عن مشادة بين الوالي العثماني والقنصل الفرنسي أفضت إلى خروج المحتل العثماني ليحل محله المحتل الفرنسي، وانطلقت شرارتها حين زار القناصل الأجانب وبينهم القنصل الفرنسي بيار دوفال قصر الوالي العثماني على الجزائر الداي حسين لتهنئته بيوم عيد الفطر، فتطرق الوالي العثماني إلى الديون المتراكمة على فرنسا والتي بلغت وفق تقديراته نحو 28 مليون فرنك فرنسي وهي قيمة فواتير قمح استوردته فرنسا من الجزائر خلال فترة الحصار الاقتصادي الذي فرضته الدول الأوروبية عليها خلال الثورة الفرنسية، فاحتد النقاش بعد أن قال الوالي العثماني إنه أرسل عدة خطابات إلى الملك شارل العاشر ولم يصله أي رد، متهما القنصل دوفال بأنه السبب في عدم وصول الرد إليه، وأنكر القنصل ذلك فقام الباشا العثماني غاضباً ورفع بيده مروحة كان يستخدمها لنش الذباب ولوح بها لطرد القنصل فلامست «ريشة» في طرف المروحة القنصل فخرج على الفور متوعداً بإبلاغ حكومته، وادعى دوفال في التقرير الذي أرسله إلى حكومته بأنه تعرض للضرب، فكانت ريشة المروحة أو ما عرفت بـ «حادثة المروحة» السبب في إعلان فرنسا الحرب على الجزائر عام 1828 بحجة استرجاع هيبتها، وانتهى الأمر باحتلال الجزائر عام 1830.

وبالغوص في خلفيات «حادثة المروحة»، سنجد أن الوالي العثماني سعى لتحقيق مكاسب مالية شخصية من ديون فرنسا، فالمراجع التاريخية تؤكد أنه منح امتيازات خاصة لتاجرين يهوديين وهما ميشيل بكري ونفتالي بوشناق، لتصدير قمح الجزائر إلى فرنسا خلال فترة الأزمة الاقتصادية التي لازمت الثورة الفرنسية فتراكمت الديون عليها وهو ما دفعها لتشكيل لجنة لمراجعة القيمة الإجمالية للديون التي قدرتها بـ7 ملايين فرنك فرنسي فقط، ودفعت نصف المبلغ إلى التاجر اليهودي بكري، وأبقت باقي المبلغ في صندوق خصصته لدفع المستحقات عن المدينين، ولكن الداي العثماني كان طامعا في المزيد وقدر المبلغ الإجمالي بنحو 28 مليون فرنك، ومن ثم حدث ما حدث، وعند استسلامه للمحتل الجديد غادر الداي حسين باشا مع عائلته ووزرائه وحاشيته حاملاً معه ثروته على ظهر السفينة الفرنسية «جان دارك» التي نقلتهم إلى نابولي ليهنأ هناك بحياة كريمة، ثم زار لاحقاً باريس للاستجمام قبل أن ينتقل في آخر حياته إلى الإسكندرية، ولا غرابة في ذلك، فقد كانت الدولة العثمانية حليفة لفرنسا منذ عام 1536 وعلى مدى قرنين ونصف. والأدهى من ذلك، بعد سقوط الدولة العثمانية قامت الجمهورية التركية بدعم قمع فرنسا للمقاومة الجزائرية، وصوتت ضد القرار الأممي حول الاعتراف باستقلال الجزائر عام 1962.

وهذا جزء يسير من الحقائق التاريخية التي يحاول الرئيس التركي أردوغان طمسها في خطاباته التعبوية التي يستنهض بها البسطاء والسذج لتحقيق المكاسب السياسية، ولكن مهما كانت الحقيقة مرة فهي خير من خداع ناعم.

* كاتب سعودي

ktashkandi@okaz.com.sa

@khalid_tashkndi