-A +A
خالد عباس طاشكندي
مساء الثلاثاء الماضي رن هاتفي الخلوي وأنا على قارعة طريق أمارس فيه رياضة المشي، نظرت إلى شاشة الموبايل فكانت زوجتي هي من تتصل، فرددت عليها: «نعم حبيبتي.. هل سمعت الأخبار؟!.. لا، خير إيش صار؟!.. الملك سلمان سمح لنا بالقيادة.. أكيد خبر مفبرك.. لا والله، أذاعوه في التلفزيون.. أوكي الآن أتابع الخبر، مع السلامة».. ثم فتحت متصفح الإنترنت ووجدت الخبر على موقع وكالة الأنباء السعودية وقد مضى عليه 14 دقيقة، توقفت فجأة وأنا في حالة من الذهول شعرت خلالها بأن قدميّ تسمرتا في الطريق، إذ شرد ذهني مني لوهلة ثم تهللت أساريري فرحاً وغبطة، وكانت بدواخلي فرحة هيستيرية وألم بارح أشبه بالمقولة الشهيرة للروائية الراحلة أناييس نين «إن سر الفرح هو براعة الألم».

أكملت المشي على ذلك الطريق وأنا أتأمل الخبر والحدث التاريخي، وكان أول ما استحضرته في ذهني هو مقولة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان خلال المقابلة الصحفية التي أجراها مع صحيفة الواشنطن بوست في أبريل الماضي «نحن لن نستمر في العيش في حقبة ما بعد عام 1979»، فتلك المقولة أبكتني حينها بحرقة؛ لأننا انتظرنا 30 عاماً من أعمارنا حتى ينقشع عنا جاثوم تلك الحقبة القابعة على صدورنا.


لقد بكيت لأنني من أبناء جيل السبعينات، الجيل الذي قال عنه الكاتب الجميل محمد الساعد كلمات حق لها أن تكتب بمداد من ذهب في مقالة نشرت في هذه الصحيفة بتاريخ 6 مارس الماضي بعنوان «عن جيل السبعينات أحدثكم»، ولا تزال أصداؤها في داخلي، حيث وصف فيها الكاتب حجم معاناة جيلي الذي شهد تقلبات تاريخية عجيبة ومتضادة في أغلبها؛ إذ قال الساعد إن جيل الذين ولدوا في السبعينات كان شاهدا على حروب وصراعات لم يتوجب أن يكون طرفا فيها، إلا أن الأميين أغرقوه فيها من أفغانستان للشيشان وللبوسنة حتى مندناو، وعاش أبناء ذلك الجيل الفقر والطفرة والانفتاح والانغلاق، وشاهدوا من سبقوهم ببضع سنوات وقد التحقوا بالبعثات الدراسية الخارجية وعندما جاء دورهم توقف الابتعاث فجأة ثم شاهدوا الأجيال التي تلتهم تبتعث بعشرات الآلاف إلى عواصم الدنيا، والجيل الذي سبقهم شهد السينما والمسرح وحفلات الطرب، أما جيلهم فقد وجد نفسه نتيجة تسلط الصحوة وحيدا يعيش حياة متصحرة قاحلة، فما إن قُضي على جهيمان، حتى غزا الحركيون حياته واختطفوها، أرعبوهم من التصوير والتلفزيون والمعازف، فأحرقوا صورهم وذاكرتهم واختلفوا مع أهاليهم، وما إن كبر ذلك الجيل حتى رأوا تناقضات من حذروهم الذين أصبحوا يتزينون للتصوير بالسيلفي والظهور على الفضائيات ويكتبون كلمات الشيلات المعزوفة بالأوتار، فظل الكثير منهم حائرين وتائهين، منهم من تشوه ومنهم من تطرف ومنهم من سلمه الله.. كان هذا جزءا يسيرا مما كتبه محمد الساعد في ذلك المقال.

نعود إلى موضوعنا، وقد قلت لكم إنني كنت أمارس رياضة المشي حين زفت إلي زوجتي الخبر المفرح بالسماح للمرأة بالقيادة، وعدت بعدها إلى منزلي لمشاهدة ردود الفعل في وسائل التواصل الاجتماعي، فوجدت العجب العجاب، فإذا بأولئك الغلاة المشهود لهم بالتطرف الفكري المتأزم والمتسلط على المجتمع عامة والمرأة خاصة، وبعد أن ظلوا ردحا من الزمن يقدحون في كل من يخالفهم بأقذع الشتائم والأوصاف والتصنيفات، فجأة انقلبوا على أنفسهم، فالحرام في نظرهم أصبح حلالاً والمكروه غدا مستحباً.

لقد شاهدتهم يخرجون تركي الحمد والقصيمي والقصيبي المختبئين بداخلهم، ولا أعلم ما إذا كان تحول أولئك المتشددين المفاجئ مبعثاً للتفاؤل أم للتساؤل، وهل كان تغيراً أم تلوناً، فقد وصل بهم الأمر ذات مرة لأن يهللوا ويكبروا لأحد المتفيقهين وهو يستشهد بدراسة علمية مختلقة من دهاليز الدروشة ووحي خيالاتهم بأن قيادة المرأة تؤثر على المبايض مما تسبب في جعل المرأة الغربية بالكاد تنجب طفلين أو ثلاثة، لم أستوعب كيف أصبح هؤلاء عقلانيين فجأة، وهم أنفسهم من كانوا يتوارثون ويتناسلون ذات الأفكار المتشددة ويستميتون لمنع المرأة حتى من حقها في التعليم، لينطبق علينا بيت أحمد شوقي «وإِذا النساءُ نشأنَ في أميةٍ... رضعَ الرجالُ جهالةً وخُمولا».

لا علينا.. فقد فرحت وطربت عند سماع ذلك القرار التاريخي؛ ليس لأن المرأة ستتمكن من حقوقها المشروعة فقط، بل لأننا نعيش مرحلة فعلية ومتقدمة من الإصلاح المنشود، وستكون له انعكاسات إيجابية كثيرة على جميع الأصعدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهو مقدمة عريضة لسلسلة متتالية من القرارات المتوقعة التي كانت مجرد أحلام ولكن سيصبح تحقيقها ممكناً ووشيكاً.

ويجدر القول إن العالم المتقدم والمتحضر سيقف ويصفق لنا احتراماً وتقديراً كما فعل مندوبو الأمم المتحدة أثناء إعلان عبدالله المعلمي الخبر في القاعة الأممية بعد لحظات من صدور الأمر الملكي، وحتى وإن أساءت إلينا إحدى الصحف الغربية بعنوانها الساخر «السعودية تدخل القرن الواحد والعشرين»، فخير أن نصل متأخراً من أن لا نصل أبداً.

ktashkandi@okaz.com.sa

@khalid_tashkndi