في لحظات التحوّل الكبرى، لا تكون الكلمات مجرد ترفٍ لغوي، بل تصبح جزءًا من هندسة الوعي الوطني. ومن هنا تأتي أهمية الرسائل التي طُرحت في ملتقى ميزانية السعودية 2026، حين دعا وزير التعليم يوسف البنيان إلى تحوير مفهومين جوهريين: ألا نقول «الإنفاق على التعليم» بل «الاستثمار في التعليم»، وألا يُصنّف التعليم كقطاع خدمي، بل كـ«صناعة المستقبل».

هذا التحوير ليس تغييرًا في المفردات، بل انتقال في زاوية النظر: من تصور التعليم كتكلفة جارية، إلى اعتباره أصلًا وطنيًا منتجًا للقيمة. ومن اعتباره خدمة تُقدَّم، إلى اعتباره صناعة تُبنى وتُدار وتُنافس عالميًا.

إذا تأملنا جوهر رؤية السعودية 2030، وبرنامج تنمية القدرات البشرية نجد أن الرهان الأكبر كان دومًا على الإنسان: مهاراته، ومعرفته، وقدرته على الابتكار، ومرونته أمام تغيّرات الاقتصاد العالمي. وقد أشار الوزير إلى أن ميزانية 2026 خصصت للتعليم ما يقارب 202 مليار ريال، مع تركيز واضح على مشاريع نوعية تعزز جودة البيئة التعليمية وتدعم التحول والتطوير.

لكن الأهم من الرقم هو الرسالة: التعليم لم يعد بندًا في الميزانية فقط، بل مسارًا اقتصاديًا واستثماريًا. فالاستثمار في التعليم يعني أن نبحث عن «العائد» لا بالمعنى المالي الضيق، بل بالمعنى الشامل: عائد إنتاجية الاقتصاد، وعائد الابتكار، وعائد الاستقرار الاجتماعي، وعائد القدرة التنافسية للدولة.

وعندما نصف التعليم بأنه «صناعة المستقبل»، فإننا نستدعي منطق الصناعة بكل ما فيه من مفاهيم. هذه اللغة الجديدة تُخرج التعليم من دائرة «الخدمة العامة» إلى دائرة «القوة الوطنية المنتجة».

ولكي ينجح هذا التحوّل، لا يكفي أن نعيد توصيف القطاع؛ بل يجب أن نعيد هندسة منظومته وفق ثلاثة اتجاهات رئيسة:

أولًا: قياس العائد بوضوح: التحوّل من الإنفاق إلى الاستثمار يتطلب مؤشرات تربط بين ما يُضخ من موارد وبين ما يتشكل من نتائج.

ثانيًا: بناء منظومة شراكات صناعية وتقنية: إذا كان التعليم صناعة، فلا بد أن يكون للقطاع الخاص دور حقيقي في تطوير المحتوى والمهارات والتدريب التعاوني، وفي تمويل الابتكار التعليمي، وفي تحويل الجامعات إلى منصات توليد المعرفة والتقنيات.

ثالثًا: الاستثمار في المعلم والبنية الرقمية والمناهج: تطوير المناهج وتعزيز البنية التحتية الرقمية وتحديث أدوات التعليم لم يعد خيارًا تحسينيًا، بل هو قلب المنافسة. وقد أشار الوزير إلى وجود مخصصات كبيرة ضمن ميزانية 2026 لتعزيز البيئة التعليمية ومشاريع التطوير.

إن أخطر ما يمكن أن نفعله بعد هذه الرسائل هو أن نتعامل معها كبُعد إعلامي مؤقت. فالمطلوب اليوم هو توطين هذا التحول في الثقافة المؤسسية: في إدارة الجامعات، وفي تخطيط المدارس، وفي عقلية القيادات التعليمية، وفي وعي المجتمع.

ختامًا، إن عبارة «نستثمر في التعليم» ليست جملة جميلة فحسب؛ إنها إعلان عن مرحلة جديدة في التنمية السعودية. وعبارة «التعليم صناعة المستقبل» ليست استعارة؛ بل خارطة طريق. ففي عالم تتسارع فيه التكنولوجيا وتشتد فيه المنافسة على العقول والمهارات، يصبح التعليم هو الصناعة التي تُنجب كل الصناعات.