-A +A
عبده خال
هل نستطيع القول بسقوط القيم الأخلاقية، وتأسيس قيم جديدة تتفق مع معطيات العصر؟

بهذه الصياغة لا يمكن الموافقة على سقوط القيم بإجابة محددة، ومع هذا الارتكاز على عدم المقدرة بجعل كلمتي نعم أو لا، محل تقرير لما يحدث.


ولأن قضية القيم آخذة في التقلب، وفق الطوفان العالمي بممارساتها التي يتناقلها الجميع حتى غدت لفظة (قيم) هي وعاء عالمي لا يمكن تحديد السوائل التي امتزجت داخل ذلك الوعاء، إذن لنتريث حيال سؤال:

- هل سقطت القيم الأخلاقية؟ لنتوقف عن الإجابة، فلكل زمن جلابيب تلبس، وفكر يبرر تصرفات من يعيش في زمنه. والتغير الاجتماعي يصبح شاشة تنقل تصرفات الزمن والكل يشاهد، فهل يصبح كلام الأمس غير مستساغٍ في زمن تبادل القيم الإلزامي؟

أذكر أني كتبت مقالاً بعنوان الحرية ليست تجرداً، حيث حمل لنا تراثنا قصص العشاق في أبهى صورها من العفة وصيانة القيم الأخلاقية سواء من العاشق أو المعشوقة، وتلك القصص ارتحلت في سفر دائم على ألسنة الرواة، ولأنها حملت العذرية فقد شاعت هذه القصص بين العامة واستقبلوها بطيب خاطر، بينما تم تناسى القصص غير المحافظة فلا تسمع إلا ما تم للتصديق على تمسكه بالقيم الأخلاقية..

هذا لا يعني أن المجتمع في تشكلاته وأطيافه غير معنيٍّ بالبحث عما قيل وحدث من اختراق للسائد، فقد ظهرت كتب عديدة في هذا الجانب إلا أن المجتمع أسدل عليها الحجب..

وهذا أمر معروف لدى الكثيرين، ولو أراد باحث متابعة (منحنى) العادات والتقاليد وتسيد قيم أخلاقية في زمن وانحطاطها في زمن آخر فسوف يجد نقاطاً بعينها أسهمت في إحداث الرضا عن عادة دون أخرى.. إلا أن مئات السنوات الماضية كان السلوك المشين في الدرك الأسفل من طبقات المجتمع، ولا يتم تعميم تلك الممارسات الشائنة وإقصاء صاحبها من الظهور أو التبجح أمام الآخرين، وظلت القيم الإنسانية النبيلة تطفو على السطح حتى قفز العالم قفزته المهولة جداً من خلال وسائل التواصل، واتسعت رقعة البث؛ فلم تعد القيم ذات مرجعية ثقافية اجتماعية أممية، إذ حدث امتزاج كل الشعوب، وظهرت كل المتناقضات على السطح، وكسبت القيم القادرة على البث الإعلامي الأوسع انتشاراً يفوق ما دونها مقدرة، فحدث تشابك غير متوازن؛ ذلك التشابك مكَّن الرذائل من أن يكون لها منبر يُعبر فيه عن تلك الرذائل (التي ظلت محتفظة بمسماها عبر العصور)، ومع الانفتاح العالمي أخذ الناس في تقبُّل ما لم يتم قبوله قبل هذا العصر أو على الأقل السماع به والتساهل معه.

في البداية كان الاستنكار حاضراً ثم توالت الأحداث، وشاعت الأخبار عنها، فأخذ المجتمع يستقبل سماع ما يمور في كل نقطة في المعمورة.. ومع شدة الضخ غدونا نسمع ما لا يسمع، وهي النقطة التي أريد الحديث عنها، فهمها كانت درجة الحرية الشخصية إلا أن هناك ضابطاً أخلاقياً يحمي الأطفال عما يقال، ويبث، ولأن الحرية الشخصية تعني وجوب إيقافها عندما تُهتك حرية الآخرين، وقد تم سن اتفاق أخلاقي ضمني بدأ في الغرب، بوضع تحذير مبكر للأفلام، والبرامج التي لا تتسق مع الفئات العمرية الصغرى، وهو ما عرف بالتحذير فوق (+18) إلا أن الكثير من محطاتنا الفضائية العربية ما زالت في حالة ارتباك أو ميوعة القرار الذي وصل فيه الأمر لبثِّ ما لا يقال أو يقترب من خدش الحياء جهاراً نهاراً.

والآن تشاهد بثاً عارياً من أي لياقة أدبية، يحدث هذا من أناس عديدين، لا يقدرون ما الذي يجب قوله، وما لا يجب قوله. وحين يكون البث عاماً يستوجب، أو من المفترض أن يتم، تقدير مشاعر الناس باختلاف مستوياتهم الفكرية والأخلاقية.. إلا أن بعض القنوات (فتحت على البحري)، وأصبحنا نشاهد حوارات تدور فيما كل ما لا يقال، عن الإدمان والخيانات، والتعري، والنكت الماجنة حتى أن المرء يستحيي كونه ضمن المشاهدين الذين يمررون كل تلك الكلمات من خلال أسمعاهم، وفي قنوات هناك مسلسلات قائمة على نشر الملابس القذرة على حبل غسيل في الشارع العام، من غير تجفيف المشاهد أو الكلمات التي لا تقال حتى لو كان الحبل في الشارع العام، وهناك قناة تبث مسلسلاً يضع قضية السحاقيات وزنا المحارم واللواط، كل هذه القذارة تضعها في سلة واحدة.. وحرية البث لا تعني إسقاط القيم الأخلاقية مجتمعة من غير احتساب قيمة لحريات الرافضين لهذا السقوط الأخلاقي، فعلى الأقل التعامل بالمثل مع الرفض أو التأييد.. والمشكلة أصبحنا في زمن كله صابون. وفي هذا الزمن الصابوني، هل علينا التزام الصمت حيال المتغيرات الاجتماعية والثقافية؟ فما كنا نخشى منه من تعرّي الأجساد أصبحت الخشية أعم وأطم حين تصحر العقل، وتحول إلى (حصالة) لا تحتفظ إلا بسقط المتاع!.