-A +A
محمد مفتي
في العام 1436 كتبت مقالاً بزاويتي بصحيفة عكاظ بعنوان «عودة طاش ما طاش» تناول مدى شهرة هذا المسلسل عربياً ونجاحه من الخليج إلى المحيط، وقد واجه هذا المسلسل الذي تناول فيه بعض الأحداث المحلية بنكهة كوميدية الكثير من النقد، ولا شك أن أسباب النقد الذي صاحب مسيرة انطلاقه منذ العام 1993 عديدة لا تتسع السطور لسردها الآن، فالبعض ينظر للمسلسل من خلال بعد واحد ضيق الأفق، دون محاولة الإلمام بكافة الأبعاد التي يمكننا من خلالها تقييمه سواء من الناحية الفنية أو الفكرية.

بصفة عامة يتم انتقاد الأعمال الفنية لأسباب عديدة؛ منها ما يتعلق بفحوى القصة ذاتها أو بسبب سوء الإخراج أو لعدم قدرة الممثلين على تجسيد القضايا التي يتناولها العمل الفني بشكل جيد، ومن المؤكد أنني هنا لست بصدد الدفاع عن «طاش ما طاش» فلا مصلحة لي في الانحياز لهذا العمل الفني أو ذاك، ولكن من المهم ألا نغض الطرف عن أن هذا المسلسل السعودي فرض نفسه على الساحة الفنية كسفير للمملكة عبر كافة أرجاء العالم، فعلى حد علمي طالبت مكتبة الكونجرس الأمريكية ببعض أجزاء العمل للاحتفاظ بها في أرشيفها الخاص، وهو ما يعني أن هذا العمل الفني كسر الإطار المحلي التقليدي وبات معبراً عن طبيعة المجتمع السعودي بعيون الآخرين.


وبخلاف ذلك، فللمسلسل مشاهدون كثر في العديد من الدول العربية، فهو رغم هويته السعودية ورغم كونه يناقش قضايا محلية سواء كانت اجتماعية أو فكرية أو غيرها فإن كثيراً من الجمهور العربي يتابعه بشغف واهتمام، وهو ما قد يعني تفوقه من الناحية الفنية على بعض الأعمال المحلية بالكثير من هذه الدول، إلى الحد الذي جعلهم يتابعونه جنباً إلى جنب مع أعمالهم الفنية المحلية.

تخلق دوماً الأعمال الفنية الناجحة جمهوراً عريضاً من المنتقدين أو الحاقدين الرافضين لنجاحها، فالنجاح يغري بتكوين جبهة مضادة من الكارهين والحاسدين، أما الأعمال الفنية الرديئة فليس لها جمهور، فهي والعدم سواء، فلا أحد يهتم بنقدها أو حتى بالحديث عنها، ومن المؤكد أن وجود نقد لأي عمل فني يعني أنه تمكن من تناول بعض القضايا الحساسة -كقضايا الفساد أو حقوق المرأة- التي قد تتسبب في إزعاج البعض، كما تعني أنه تمكّن من إثارة حنقهم مما جعلهم يوجهون نقدهم اللاذع داعين لإيقافه أو حتى رفضه على أقل تقدير، وهو ما يعتبر إنجازاً يحسب للقائمين على المسلسل في حد ذاته.

من المؤكد أن هذا العمل الفني يعد جزءاً من الهوية والتراث الفني السعودي، والذي ظل يعكس مظاهرهما وتغيراتهما وتطوراتهما على اختلافاتها لمدة تقترب من الثلاثين عاماً، موثقاً كافة ما طرأ على المجتمع السعودي من أحداث ومسجلاً طريقة تعامل أفراد المجتمع معها، وكل ذلك في قالب كوميدي فني خفيف يمتزج مع المشاعر، لذلك فهو يعد سجلاً تاريخياً فنياً للمجتمع السعودي ولحضارته لفترة زمنية طويلة.

لعل أهم عوامل نجاح طاش ما طاش هو قدرة الفنانيْن عبد الله السدحان وناصر القصبي على النفاذ لقلوب الجماهير، ومن المؤكد أن سلسلة النجاحات التي حققها الثنائي منذ عرض المسلسل عام 1993 أكدت -بما لا يدع مجالاً للشك- على وجود درجة عالية من التناغم والإبداع بينهما وبين جميع أفراد طاقم العمل الفني، وهو ما أخرجه على هذا النحو الممتع والجذاب وأكسبه القدرة على دفع المشاهدين من المملكة وخارجها على متابعته بشكل يومي، بل وعلى تفضيله على الكثير من الأعمال الفنية الأخرى التي يزخر بها شهر رمضان المعظم.

قد يعتقد البعض أن هذا العمل الفني لا يهدف إلا للتربح المادي فقط، وقد يكون ذلك بسبب تردي «بعض» الأعمال الفنية الأخرى، لكن في الحقيقة هناك العديد من الأكاديميات والمعاهد الفنية العالمية الراقية التي تقوم بتدريس الفنون لإيمانها بأن الفن هو حلقة الوصل التي تربط بين المواطن وبين همومه الحياتية، ذلك أنه يجسدها بطرق مختلفة ومبتكرة، ولعل أشهر تلك الطرق هو النوع الأدبي المعروف بالفن الساخر، والذي يقوم على نقد بعض الأوضاع السياسية أو الاجتماعية ويقدمها في قالب كوميدي خفيف يجتذب الجمهور، وبقليل من التمعن يمكننا بوضوح إدراك أن مسلسل طاش ما طاش هو مسلسل هادف يهدف لعرض وانتقاد الكثير من الظواهر السلبية في المجتمع.

يعتقد البعض أن الفن هو مجال ترفيهي غير ذي شأن مقارنة بالعلوم الأخرى، غير أن الفن في جوهره هو البناء المعبر عن مدى تحضر وإنسانية ورقي أي مجتمع، وعادة ما يقاس تطور المجتمعات بمدى تقدم فنونها وآدابها، والفن لا يقاس بعائده المادي فحسب بل يقاس بالرسالة التي يحرص على توصيلها، وخلال شهر رمضان الحالي شاهدنا العديد من الوجوه الجديدة في عدد من البرامج الوطنية والتي نأمل أن يزيد عددها خلال المواسم الرمضانية القادمة، كما نأمل أن تشهد المرحلة القادمة طفرة ملموسة في إنتاج المسلسلات والأفلام السعودية المحلية، فالفن هو أفضل سفير لبلدنا وحضارتنا وتراثنا.