-A +A
محمد مفتي
لا يمكن لأي دولة بالعالم أن تعيش بمعزل عن بقية دول العالم الأخرى، فالعلاقات بين الدول تشبه كثيراً العلاقات بين أفراد المجتمع الإنساني، فكلما تمتع الفرد بعلاقات جيدة مع الآخرين كلما كانت فرصه في الاستقرار والنجاح أفضل من غيره، وكذلك هي العلاقات في عالم السياسة، فغالبية الدول تجمعها بالدول الأخرى علاقات صداقة أو شراكة أو تحالف، كما أن هناك علاقات تفرض نفسها بطبيعة الحال كعلاقات الجوار أو العلاقات التاريخية والتي عادة ما تكون مؤسسة على أسس جيوسياسية عميقة، والتي تفرض نوعاً من العلاقات بين الدول تمليها المصالح المشتركة والرؤى المتبادلة.

ولطالما اتخذت العلاقات بين الدول وبين القوى العظمى صوراً وأشكالاً مختلفة، فبعض القوى العظمى يجمعها بحلفائها علاقات عميقة يصعب التخلي عنها، فهي دائمة المساندة والدعم لها في كل المواقف وخلال كافة الأحداث التي تمر بها، بينما يتسم بعض الحلفاء بالانتهازية فهم دول بلا أصدقاء بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهم يتحالفون مع بعض الدول خلال فترات زمنية محددة وعبر مواقف بعينها لخدمة أهداف أو مصالح محددة تهم تلك القوى في بعض المراحل الزمنية فحسب، وبالتالي فإن هذه القوى تعد قوى انتهازية لا تبحث إلا عن مصالحها ولا تكترث إلا بما يعنيها هي فقط، ولذلك لا تكون هناك فائدة حقيقية مرجوة من عقد تحالفات متينة معها على المدى البعيد أو حتى القريب.


هناك العديد من المناطق الملتهبة في العالم وليست منطقة الشرق الأوسط فحسب، وعادة ما تحتاج المناطق الملتهبة لتدخلات موثوقة ومتزنة لتهدئة الأوضاع فيها، وهذه التدخلات يجب أن تتسم بالمصداقية والبعد عن التحيز وأن يراعي في الحسبان حساسية العلاقة بين أطراف النزاع، لأن العشوائية والتخبط في معالجة أي نزاع قد يتسبب في اندلاعه بدلاً من تهدئته، ومن الملاحظ أن المناطق الصراعية المتلهبة في العالم كمنطقة الشرق الأوسط تتسم بأنها مناطق نفوذ للعديد من القوى المتصارعة، وهو ما يستوجب أن تتم التسوية بين القوى المختلفة بمصداقية بعيداً عن التحيز وخلط الأوراق، وهو ما يستلزم بالضرورة أن يكون الوسيط مقبولاً من كل الأطراف.

وبنظرة متعمقة بعض الشيء لطبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة وبين الدول المنتمية لمناطق الصراعات الملتهبة نجد أن الولايات المتحدة عادة ما تلعب دور الحليف الذي يصعب الاعتماد عليه، فالولايات المتحدة يسهل عليها التخلي عن حلفائها وبسهولة يتبدل موقفها من النقيض للنقيض، كما أن مواقفها كثيراً ما تتسم بالميوعة والتناقض المضمر مما يوقع حلفاءها في حيرة ويثير الكثير من علامات الاستفهام عن مدى صلابة موقفها.

من المؤكد أن الولايات المتحدة قوة عسكرية واقتصادية ضخمة تسعى غالبية دول العالم لخطب ودها وتكوين علاقات طيبة معها، ولكن بقدر ما يكون هذا التقارب منشوداً يثور التساؤل عن مدى عدالة الإدارات الأمريكية في التعامل مع كافة حلفائها بمعيار واحد وليس من خلال عدة معايير مزدوجة، وعما إذا كانت تمتلك مبادئ ثابتة تطبقها على الجميع وخلال جميع المواقف بحيادية وعدالة كافية، أم أنها تتلون وتتغير مواقفها طبقاً لمصالحها الخاصة وتبعاً للمزاج العام للناخب الأمريكي.

هل تحرص الولايات المتحدة بالفعل على نشر السلام في ربوع العالم باعتبارها دولة عظمى يفترض أنها تسعى لفرض السلم والاستقرار الدولي، وهل المساعدات السخية التي تقدمها الإدارات الأمريكية لبعض الدول دون الأخرى تعكس رغبتها الصادقة في نشر السلام أو المساعدة، أم أنها تقدم تلك المساعدات لتضمن لها موطئ قدم في بقعة جغرافية ما تمثل لها أهمية جوهرية في فترة زمنية محددة، وسرعان ما تسحب مساعداتها منها بدون مقدمات وعلى نحو مفاجئ بعد تحقيق هدفها، تاركة إياها في مهب الصراعات والتخبطات كما فعلت في أفغانستان على سبيل المثال.

هناك فئة أخرى من الدول تحرص الولايات المتحدة على تقديم مساعدات عسكرية لها من خلال بيعها كماً ضخماً من الأسلحة والعتاد العسكري الكافي لتشغيل مؤسسات تصنيعها العسكري ومنعه من الانهيار، ولكن مع الاحتفاظ بأسرار تشغيله لكي تضمن ولاء الدولة لها وعدم قدرتها على التحرر من أسر ارتباطها العسكري بها، أما في حال تضخم الترسانة العسكرية لواحدة من تلك الدولة وظهور بوادر خفية لرغبتها في أن تتوقف عن شراء المزيد من الأسلحة التي أتخمت مخازنها العسكرية، فلا بأس وقتها من افتعال صراع هنا أو هناك لاستهلاك بعض هذه الأسلحة وإزهاق بعض الأرواح البريئة من أجل عودة شريان شراء الأسلحة العسكرية للتدفق من جديد.

من المؤكد أن كافة المواقف أثبتت -ولازالت تثبت- أن الولايات المتحدة حليف لا يمكن الثقة فيه ولا الاعتماد عليه، ويؤكد الواقع أن مواقف الولايات المتحدة هذه كشفت النقاب -من جهة أخرى- عن وجود قوى عالمية أخرى صاعدة لا تجيد ارتداء الأقنعة المزيفة كالصين، صادقة في وساطاتها وثابتة الموقف، رؤيتها صريحة وأهدافها مشروعة، ويمكن بناء تحالفات عميقة مستمرة معها على المدى الطويل، والأهم أنها تعتمد في علاقاتها مع غيرها على المصالح المتبادلة بين كلا الطرفين ولا تعتمد على تحقيق مصلحة طرف واحد فقط طيلة الوقت، ولو لم تدرك الولايات المتحدة تغير الواقع من حولها وتقرأ التاريخ جيداً لتعي أن لكل قوة نهاية، ولو لم تتجدد الرؤى وتتطور العلاقات بما يخدم جميع المصالح المشتركة، فستجد نفسها في تراجع مستمر ربما بدأنا نلحظ بالفعل أولى مراحله خلال الفترة الزمنية الحالية.