-A +A
محمد مفتي
ما إنْ أعلنت الرياض وطهران استئناف علاقاتهما الدبلوماسية حتى سارعت بعض الأقلام المغرضة في التشكيك في جدية هذا الاتفاق، ففي الوقت الذي رحّب الكثيرون بهذا الاتفاق آملين أن تشهد منطقة الشرق الأوسط بعض الاستقرار والهدوء، أصابت البعض الدهشة الشديدة وشعروا بالتعجب وعدم التصديق، وبينما انخرط بعض المحللين في تفسير الحدث وتأويله من عدة أبعاد، ظلت بعض الأطراف التي يهمها أن تظل المنطقة على صفيح ساخن كمن يغرد خارج السرب، وذلك لتشويه أي نجاح والتقليل من شأن أي إنجاز.

على ما يبدو أن أعداء النجاح لا يصابون بالسأم بسهولة، فالحقد المدفون في أعماقهم يحفزهم دوماً على التنقيب عن أية ثغرة لتحويل كل نصر إلى هزيمة، كما أن الغضب الأعمى الذي يعتمل داخلهم يحثهم باستمرار على قلب الحقائق ولي ذراع الوقائع في محاولة يائسة منهم لتكريس أفكارهم الحاقدة وآرائهم الخاطئة بين الآخرين، وقد شرعت هذه الفئة الضالة والمضللة منذ الإعلان عن الاتفاق السعودي الإيراني -الذي لاقى ترحيباً دولياً وإقليمياً ملموساً يتعذر تجاهله- في تصوير الاتفاق وكأنه انتصار للدبلوماسية الإيرانية وسياساتها النووية، والادعاء أن مخرجات هذا الاتفاق من شأنها أن تصب في صالح الجانب الإيراني فقط، دون أن ينال الجانب السعودي أية فائدة تذكر منه.


من المؤكد أن هذا الفريق الذي ينخر فيه الغل والبغض ولا يحمل تجاه بلده ووطنه أية مشاعر انتماء أو ولاء ولا يتمنى له الخير والمزيد من الاستقرار، عادة ما ينقصه الذكاء ويفتقد للعقل والمنطق في تحليله لما يدور حوله من أحداث، فهؤلاء كل ما يهمهم هو الادعاء بفشل الدبلوماسية السعودية، مروجين لتلك الضلالات تبعاً لمستوى ذكائهم ومعرفتهم المتواضعة، ومن المؤسف أن تتواجد هذه الفئة في أي مجتمع غير أن وجودها للأسف حقيقة لا يسعنا إنكارها، غير أنه يتوجب على الإعلام الناجح مواجهة ادعاءاتهم وتفسير الأحداث للرأي العام بالعلم والمنطق.

يعلم الجميع أن العلاقات بين المملكة وإيران شهدت العديد من نقاط التوتر خلال العقود الماضية، وبعيداً عن الأسباب التي أدت لذلك يعرف الجميع أن المملكة، كانت ولا تزال، الطرف الذي يسعى باستمرار لكل ما من شأنه تثبيت دعائم الاستقرار والهدوء في المنطقة، وسبب ذلك هو إيمان المملكة العميق أن أمنها ورخاءها الاقتصادي وازدهارها جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار المنطقة، وأن كل ما من شأنه تعكير صفو المنطقة سينعكس بصورة أو بأخرى وبمستويات متفاوتة على المملكة، ومن هنا فإن الإعلان عن هذا الاتفاق يصب بصورة مباشرة في مصلحة المملكة، التي تهدف استراتيجيتها طيلة الوقت لإشاعة أجواء الهدوء والاستقرار في المنطقة بل وفي العالم كله أيضاً.

لم تطلب المملكة يوماً -خلال جلوسها على مائدة المفاوضات- أكثر من الطلبات المشروعة التي ترغب فيها كل دولة قوية ذات سيادة حتى يسود بينها وبين الدول الأخرى السلام، ولعل أحد أهم هذه الطلبات هو حماية حدودها وعمقها الاستراتيجي وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، كانت يد المملكة دوماً ممدودة بالسلام ولم يعرف عنها أي طرف تعنتاً أو تعسفاً أو إملاءً للشروط المتعجرفة على أي طرف آخر، ومن المؤكد أن تدهور العلاقة بين المملكة وإيران خلال السنوات الماضية أغرى بعض الأطراف الحاقدة للنفخ في نيران الأزمة، فهم من يريد المنطقة مشتعلة ملتهبة متفرقة طول الوقت، بينما أسعد هذا الاتفاق الأخير الأطراف المحبة للمملكة والمحبة للسلام والراغبة في أن يسود في كامل المنطقة.

من المؤكد أن هذا الاتفاق سيعود بالفائدة على جميع الأطراف، فهو لا يقتصر على طرف دون الطرف الآخر، لكن من المؤكد أنه سيصب في المقام الأول في مصلحة إيران؛ كونه سيكسر عزلتها ويخفف من توتر الشارع الإيراني، كما أنه سيسهم في عودة الاستقرار للمنطقة ويقلل من المناوشات التي تؤثر على استقرارها، كما أن استئناف العلاقات سيساعد في التئام الصف وتماسكه في مواجهة التحديات الدولية التي تفرض نفسها على المنطقة.

ليس من المستغرب أو من المستبعد أن تتدهور العلاقات بين الدول لفترة أو لأخرى، ويحدث هذا لأسباب كثيرة منها ما هو سياسي أو اقتصادي أو جغرافي أو ما شابه، كما أن بعض الدول تكون لها توجهات معينة خلال فترات زمنية معينة، وليس معنى ذلك أن تستمر العلاقات متدهورة أو مضطربة طيلة الوقت، فالسياسة هي فن الممكن، وبدون شك يتسم السياسيون المخضرمون بالمرونة والدهاء وحسن الإدارة وفهم الواقع بشمول وتكامل، فالمصالح تتغير والأحداث تتطور، والحنكة السياسية تتطلب دوماً التأقلم وفهم الواقع والاستفادة منه لتحقيق أقصى مصلحة ممكنة للدولة وشعبها.

في الوقت الذي يسعى البعض لتصوير هذا الاتفاق على أنه إملاء من أطراف خارجية كالولايات المتحدة تصيبهم الحقائق الدامغة في مقتل، فهذا الاتفاق عامر بالرسائل السياسية الصريحة والمهمة، فهذا الاتفاق ليس مفاجئاً بل تم نتيجة جهود مستمرة لجولات من المفاوضات استمرت لما يقرب من العامين، والوساطة كانت للصين التي بدأت تمارس نفوذها في المجتمع الدولي كقوة عظمى مناوئة للولايات المتحدة، فهم من قاموا بتقريب وجهات النظر والوصول لحلول ترضي جميع الأطراف، وهو ما يعني أن قواعد اللعبة السياسية الدولية بدأت في التغير بالفعل مع ظهور قوى عالمية وأفول أخرى، ولا شك أن المخرجات الإيجابية لهذا الاتفاق ستفوق كافة التوقعات، فلنا أن نتخيل اتفاقية تنخرط فيها دولة بمكانة ووزن وثقل المملكة بشراكة ورعاية عملاق الاقتصاد الدولي والقوة العظمى الصاعدة، وهو ما يجعلنا من أشد المتحمسين لها آملين في نجاحها وتأثيرها الإيجابي على كافة دول وشعوب منطقة الشرق الأوسط.