-A +A
عبدالله بن بخيت
تتخيل هارون الرشيد كما أنجبته السينما. رجل يرفل في الدمقس والحرير، يجلس على عرشه المطلي بالذهب وحوله رجاله وخدمه وعبيده وثلة من الضيوف الأنيقين الضاحكين، أو تشاهد صلاح الدين يطفح بين جواريه الحسان يتضاحكن بين يديه ويتلين عليه شعراً جميلاً ويتنافسن على رضاه وجلب اهتمامه. لا شك يتحلب ريقك إذا كنت مراهقاً ويعود إليك صباك إذا كنت شيخاً وإذا كنت شاباً سوف تلعن هذا الزمان الذي زج بك معنا. ستتساءل بحرقة كيف كنا وكيف أصبحنا وتلتفت على الجالسين قائلاً: (هذا عندما كنا ندك أسوار أوروبا) ثم تكمل بحرقة وفخر: كان هارون الرشيد يقول عندما يرى سحابة مثقلة: امطري يا سحابة أنّى شئت فإن خراجك لي.

لا تخبرك السينما المصرية ولا دعاتنا الأفاضل ولا أستاذ التاريخ في خامسة ابتدائي بكامل القصة. لم تقل لك السينما أو مدرس التاريخ في خامسة ابتدائي أن ريع هذه السحابة لن يطولك منه سوى ما يجود به الخليفة وزوجاته من صدقات والباقي للجواري والغزوات، ولم تقل لك السينما إن قصر هارون الرشيد المنيف لا يوجد به مكيفات ولا لمبات ولا تلفزيونات ولا ماء جارياً ولا تصريف مجارٍ ولا صابون ولا شامبو. لك أن تتخيل رائحة هذه الجارية التي تتراقص أمام الرشيد وكيف هي رائحة الرشيد نفسه. ولم يقل لك مدرس التاريخ في خامسة ابتدائي ولا السينما إن معظم حرسه وعبيده رجالاً ونساء وكامل شعبه العزيز يقضون حاجاتهم في الخلاء. إذا خرجت في المساء، وسوف تخرج حتماً لقضاء الحاجة، ستجد شعب الرشيد متكومين هنا وهناك ينشطون في عمليات الاستنجاء والاستجمار على ضفاف نهري دجلة والفرات.


ارحل مع السينما وكلام الحكواتية من دعاتنا الأفاضل وأستاذ التاريخ في خامسة ابتدائي وتخيل نفسك واحداً من رعايا هارون الرشيد والخلفاء الممجدين، صلاح الدين أو سليم الأول إلخ. تصور إذا كانت هذه حال الخليفة (لا ماء ولا كهرباء)، فكيف هي حالك. إذا كان عمرك الآن فوق الخمسين فأنت ميت في تلك العصور، فالعمر الافتراضي لحياة شعوب الخلافة لا يتعدى الخمس والأربعين سنة. عندما تتركنا في هذا الزمان وتعود إلى زمن أحلامك لن تنقل معك المستشفيات وغرف العمليات والمضادات الحيوية واللقاحات والإسعاف والوعي الصحي والتأمين الطبي وعمال نظافة الطرقات والحارات وعليك عندما تعيش ذلك الزمن أن تجتهد ليلاً ونهاراً؛ لكي تنجب سبعة أطفال لعل القدر يترك لك واحداً أو اثنين.

كلما شعر أحدنا بالخذلان وتفوق الآخرين على المسلمين في كل مجال استعاد في ذاكرته الصور التي شاهدها في السينما المصرية أو التي سردها عليه أستاذ التاريخ في سنة خامسة ابتدائي أو التي صارخ بها دعاتنا الأفاضل، والتي أصبحت زاد أحلامنا الوحيد. نتفرج على المسلسل التلفزيوني على شاشة فاخرة ونسمع صريخ الداعية من مايكرفون مدوٍّ ونحلم بحسناوات الخليفة في غرفة نوم مكيفة فنصنع عالماً لا يمت للعالم بصله. لا أنسى أستاذ التاريخ في المرحلة الابتدائية كيف كان يخبط بقدميه وهو يردد قول اللينبي (ها نحن عدنا يا صلاح الدين)، فنبكي على حالنا بعد أن تركنا صلاح الدين وحدنا وذهب. ثم نعود إلى بيوتنا ونحن ندعو الله أن يمدنا بصلاح الدين آخر. لم يخبرنا أحد أن الطريق الوحيد المفتوح للبشر الأسوياء هو طريق المستقبل فقط. لم يقل لنا أحد أن من مات علينا أن نتركه لموته.