-A +A
صدقة يحيى فاضل
بمناسبة وفاة الملكة «إليزابيث»، الملكة الرمزية لبريطانيا مؤخراً، بعد سبعة عقود من الحكم الرمزي، أثار بعض الكتاب والمثقفين العرب موضوع العلاقات العربية - البريطانية، واضعين السجل الاستعماري البريطاني، كأكبر عيوب السياسات البريطانية تجاه عموم العرب. ويبدو أن هؤلاء يكرهون سياسات بريطانيا، ولا يقرون أفعالها الماضية والحالية نحو ديارهم خاصة، رغم ما يربط بين بريطانيا وأغلب دولهم العربية حالياً من روابط رسمية قوية. وبالطبع، لا يوجد في السياسة حب، أو كراهية... توجد «مصالح» معينة لكل طرف. وهناك أمور سياسية سيئة، لا يقبلها أي راشد عاقل، إلا إن كان مستفيداً، أو جاهلاً. وبأخذ «عينة» من هذه الفئة المثقفة من العرب، وجد أنهم يعتبرون أن بريطانيا، أو المملكة المتحدة، كانت - وما زالت - أكبر القوى الدولية المعاصرة التي أضرت بـ«المصالح» القومية العربية الحقيقية، في المدى الطويل. وهذا «الضرر» فاق - في رأيهم - أذى القوى الدولية السابقة واللاحقة..!

ويورد هؤلاء «أدلة» كثيرة، من أهمها: ظهور سوءات بريطانيا وأضرارها الكبيرة، وحتى مزاياها، بعد رحيلها، و«استقلال» البلاد العربية التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار البريطاني. فقد خلفت «تركة» لعلها -في رأيهم- من أسوأ ما خلفته هذه الإمبراطورية. إذ قسمت الوطن العربي، بالتعاون مع فرنسا وغيرها، إلى دول ضعيفة ودويلات مستضعفة، وعملت جهدها على تكريس مبدأ «فرق... تسد»، بدق أسفين فيما بين هذه الدول، حتى لا تتحد لاحقاً اتحاداً حقيقياً. وذلك، رغم أن بريطانيا دفعت لإقامة «جامعة الدول العربية»، لامتصاص المد القومي العربي، الذي ساد في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، بإقامة «اتحاد كونفدرالي هش»، يجمع فيما بين هذه الدول شكلياً، ويمتص الشعور القومي الوحدوي. كما زرعت في بعضها نظماً تعمل على تخلفها، أكثر من تقدمها. وتوجت عداءها المشهود للشعوب العربية والمسلمة بإقامة الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية، وعلى حساب شعب بأكمله. وبعد ذلك، سلمت الراية الإمبريالية لبريطانيا الجديدة المسماة «الولايات المتحدة الأمريكية»، لتكمل ما بنته وأقامته.


****

ما ذكر هي آراء و«مشاعر» بعض، أو ربما غالبية، المثقفين العرب، تجاه هذه الإمبراطورية. وهي مشاعر لها أساس من الصحة، ولابد من احترامها، والحوار البناء بشأنها، بما يؤدى لعلاقات عربية - بريطانية أصح وأفضل للجانبين مستقبلاً. ولا يوجد قانون «يحرم» هذه المشاعر، أو «يجرم» حامليها، طالما بقيت مشاعر خاصة، وطالما استندت هذه المشاعر على أدلة واضحة، ودامغة. ومن الطبيعي أن يكون للمثقفين والمتعلمين العرب «رد فعل» تجاه سياسة بريطانيا، وغيرها من القوى الدولية الكبرى التي لها علاقات مع دولهم، خاصة بعد هذا التفاعل الطويل بين العرب والإنجليز، وبين العرب والقوى الأخرى عموماً.

ويبدو أن هناك من العرب من ينظر بإيجابية مؤكدة لهذه العلاقات. ولكن، يبدو أن جوهر مشاعر الغالبية هو الاستياء والعداء، بدليل تعبير بعض المثقفين عن الفرح بما يصيب بريطانيا من هزات، وما يواجهها من صعوبات. من ذلك، تشفّي البعض بما تمر به بريطانيا من أزمات سياسية خانقة، في بعض المراحل، خاصة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي (بريكست) بعد أن كانت قد التحقت به، عام 1973 بشق الأنفس. كما لم يتردد بعض أولئك في الإعلان عن أملهم في تفكك المملكة البريطانية المتحدة نفسها إلى أربع دول، على الأقل، هي: إنجلترا، ويلز، سكوتلاند، إيرلندا الشمالية. ومعروف أن كامل مساحة بريطانيا لا تتعدى 244104 كم2، عدا مساحة المناطق التابعة. أي ما يعادل مساحة إحدى الدول الأفريقية الصغيرة. ورغم صغر هذه الرقعة من الأرض، إلا أنها حكمت أغلب العالم لأكثر من قرن. ولكنها الآن تضم أربع قوميات، قابلة للتنافر والتفكك. ويوجد احتمال فعلي بتفككها، لتذوق ما أذاقته لغيرها.

****

ولكن، يجدر بنا، في ختام هذا المقال، أو هذه الإشارة العابرة للعلاقات العربية - البريطانية، أن نوضح أن طبيعة العلاقات الدولية قد تعفي ساسة بريطانيا من كثير مما فعلوه بالأمم الأخرى. فأهم ما يميز العلاقات الدولية، وتتسم به، حتى الآن، هو سيادة عنصر «الفوضى» (Anarchy) في معظمها... أي: عدم وجود جهة عليا (أو سلطة حاكمة) تتولى عملية صنع القرارات لمجتمع الدول، وتعترف لها الدول بهذا الحق. أو بمعنى آخر، عدم وجود حكومة عالمية واحدة (متفق عليها، ومعترف لها بالحق في الحكم)، تضع القوانين، وتشرف على تنفيذها، والعمل على إلزام الدول بها، ثم المقاضاة بشأنها، ومعاقبة من يخالفها. ونتيجة لسيادة هذا العنصر في العلاقات بين الدول، أصبح قانون: القول الفصل لصاحب الإمكانات الأكبر والأقوى (قانون الغاب) هو السائد... حيث نجد أن القوي من الدول غالباً ما يستطيع فرض إرادته، على الأضعف، عند تناقض واختلاف مصالح الطرفين.

وهذه الـ «غابية» ما زالت (وستظل، طالما هناك دول) هي المهيمنة على سير العلاقات الدولية، رغم أن هذه الغابية قد خفت، أو تقلصت قليلاً، بدءاً من العام 1945، بفعل ما صدر من قوانين ومعاهدات، وما أنشئ من منظمات (الشرعية الدولية). والإمبراطورية البريطانية، كمعظم الإمبراطوريات الأخرى، ليست خيرة. فقد سادت، فاستبدت. إنما الخير من لا يستبد.