-A +A
نجيب عصام يماني
ما انفك قانون التضاد الثنائي يسم حركة الكون في عمومها، منذ الأزل، سواء على مستوى التصنيف المميز، في معرض التفريق، أو التوصيف المباين، أو في معرض التأكيد على التضاد، تعميقًا للمعنى البارق: وبضدها تتبين الأشياء.. على أنّ هذه الثنائية تبقى محتملة لدرجات عديدة وصولاً للنهائية القصوى في حديها، فلو أخذنا الكفر والإيمان مثلاً، بوصفهما ثنائية توصيف مباين لحالتين مرتبطتين بموقف الإنسان من العقائد والمعتقدات والأفكار، سنجد تدرجات عديدة، ومراحل مختلفة، تفضي في محصلتها النهائية إلى لزوم أحد الحالين عند الحكم والتقييم.

والثابت، الذي لا جدال حوله، أنّ هذه الثنائية المنظورة في الشّيء وضدّه، هي الجبلة والقانون الذي برأت يد العناية الإلهية الكون عليه، وجعلته قانون الحركة الكونية، وضابط إيقاعها، وليس بمقدورك أن تجد صفة لا تحتمل ضدًّا لها، أو فعلاً لا معاكس له..


كل شيء في الإيجاب لا بد وله مقابل ومناظر في السلب، وأيّ محاولة للإخلال بهذه المنظومة الكونية، لن يكون لها نصيب من النجاح يفضي إلى قلب المعادلة بالكلية..

برقت بخلدي هذه الخاطرة، وأن أقلّب بين ناظريَّ خبرًا طريفًا مفاده أن مجموعة من الباحثين والعلماء استطاعوا الوصول إلى تركيبة هرمون السعادة والحب (الأوكسيتوشين)، وقاموا بتجريبه على مجموعة من الأسود، لما عرف عنها من شراسة ضارية، ونزعة عدوانية، ومجانفة للائتلاف والتعايش السّلمي مع الكائنات الأخرى،

فأدّت رشّة من هذا الهرمون على أنوفها إلى تغيير مزاجها، وضبط سلوكها، واستلال نزعتها العدوانية، وسلوكها الضاري، فأضحت وديعة ومسالمة، وقابلة للتدجين والأنسنة..

وقد جاءت الدراسات مؤكدة هذه التجربة وأنها نتيجة اشتغال علمي جاد، ذكرته النشرة العلمية (اى ساينس). وقد أصابتني الدهشة لأن مثل هذا التغيير في منظومة الحياة والفطرة الخلقية لا بد وأن يفضي إلى اختلالات كثيرة، وتغيير في سلوك المخلوقات جميعًا، بما يحمل معه بوادر تغير الحياة بمجملها، وهو أمر لم تقم عليه الحياة، ولن تقوم بمثله، ولو أنّا ذهبنا مع هؤلاء العلماء في مبحثهم بتدجين الأسود، وكافة الضواري المستهدفة لغيرها من الحيوانات بالافتراس، ورششنا على أنوفها «هرمون الحب»، وآنست واستأنست، فالمحصلة في النهاية تكاثر وانتشار لكافة الحيوانات بما يخل بميزان الطبيعة، وقدرة استيعابها وفق مواردها المتاحة.. وهذا ضد الطبيعة وقانونها الإلهي البديع..

وقد أطلقت لخيالي العنان في النّظر إلى حاجة الإنسان تحديدًا إلى هذا الهرمون، بأكثر من حاجة الحيوان إليه، ذلك أن الحيوان إنما يفترس لحاجة، فالأسد مثلاً إذا قضى وطره من الشبع بافتراس غزال مثلاً، فإنه لن يتحرّك ليفترس غيره، ولو مرّت عليه كل غزلان الدنيا، هذا هو قانون البقاء في حياتها، وحياة غيرها. أما الإنسان فأمره عجب، وسلوكه العدواني يكاد يكون سمة لازمة، وطبعًا مجبول، وصدق الشاعر حين قال:

والظّلمُ من شيمِ النّفوسِ، فإن

تجد ذا عفةٍ فلعلّةٍ لم يظلمِ

إنّ الإنسانية اليوم في مسيس الحاجة إلى هذا الهرمون، ليُرشّ على المعاطس للجميع في كلّ مكان، علّهم يستشعرون شيئًا من المحبّة، ويستنهضون في روحهم ودواخلهم معاني السعادة، لتفارق الأنفس هذا الاكفهرار والعبوس، وترتسم في الوجوه معاني الإشراق بالحب بعيدًا عن غبرة الكراهية، واسوداد النوايا..

نعم؛ الإنسانية اليوم ذهبت في الكراهية والعدوان مذهبًا بعيدًا، ما تشرق الشمس إلا على نار توقد، وحرب تسعّر، ولا تمضي سحابة اليوم إلا على إيقاع من خبث الطوايا، ونشر الأحابيل، ولا تنطفئ شمس اليوم إلا وقد نام الجميع على حزن، وخوف، وقلق مما سيأتي.. ونذر الحرب العالمية الثالثة على الأبواب، تكاد الشواهد كلها تشير إليها يقينًا، وتهمس بها خوفًا..

هكذا كان حال الإنسان منذ الأزل؛ «ظلوما جهولا»، في طراد مستمر وجنوح نحو العدوانية، وصدق المتنبي في توصيف هذا السباق بقوله:

كلّما أنبَت الزّمانُ قناةً

ركّبَ المرءُ في القناةِ سِنانا

سعي مستمر للتسلّح، وسطوة للعدوان، ورغبة في السحق والمحق وإفناء الكون، بلا عقل يردع، أو ريث يهب حكمة التروي والنظر البصير في مراد الله من الخلق والحياة.

ألسنا يا أيها العلماء الأفاضل الأكثر حاجة، والأشد ضرورة لهذا الهرمون العجيب الذي نحتاجه في كل حياتنا وقد اشتطت بنا السبل، ونهضت بيننا حوائط العزل القسري، نحتاجه في علاقاتنا مع بعضنا البعض وقد غلفها الكذب ولبس الأقنعة في الشارع لتنظيم حركة المرور وتعاملنا مع بعضنا، دون صراخ وزعيق وشتم وحركات لا تصدر عن نفس متسامحة.. نحتاجه في مقار العمل، والأسواق، والملاعب، وفي كل مكان، حتى نفهم الحكمة من الحياة، نحتاجه بعد أن عزّ علينا أن نطبّق مفهومًا بسيطًا للسعادة منظورًا في الحديث النبوي الشريف: «افشوا السلام بينكم»، مقرونًا مع «تبسّمك في وجه أخيك صدقة»، ضيعنا ذلك، فلا تضيعوا مجهودكم في الأسود والضواري، فنحن الأمسُّ حاجة لهرمونكم الباعث على السعادة، والموجب للحب، وجودة الحياة فهاتوا ما عندكم.