-A +A
رامي الخليفة العلي
فرنسا العضو الدائم في مجلس الأمن وإحدى القوى الكبرى التي لعبت أدوارا رئيسية منذ ما قبل الثورة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر وحتى الآن. ليس باعتبارها قوة عسكرية، لطالما صالت وجالت طوال القرن التاسع عشر والعشرين، لكن باعتبارها رائدة في العالم الغربي فهي صاحبة إعلان حقوق الإنسان وعبر مونتسكيو وضعت أسس الفلسفة القانونية، ورسخت أسس العقد الاجتماعي في الدولة الحديثة، كما أنها كانت رائدة في مجال العلوم والعلوم التطبيقية على وجه التحديد، فقام معهد باستور بثورات انعكس صداها على أرجاء العالم الأربعة. كل هذا وأكثر لا تزال شواهده ماثلة أمام عيوننا. ولكن هل التاريخ وحده يكفي للحفاظ على التقدم والتطور؟ الإجابة بكل تأكيد لا، وإذا كان كذلك فيحق للمواطن الفرنسي أن يسأل: أين موقع بلاده من خارطة التقدم التقني والعلمي والعسكري؟

لقد تحولت بلاد الغال إلى مستهلك للتقنية المتطورة في الولايات المتحدة والصين، بل وحتى بلدان أوروبية لطالما نافستها باريس. خذ على سبيل المثال لا الحصر فإن فرنسا تنتظر اللقاحات المتعلقة بفايروس كورونا من المؤسسات البحثية الأمريكية والبريطانية والسويدية والألمانية. لم يكن لفرنسا إسهام حقيقي في تقنيات الجيل الخامس من الاتصالات، بل إن فرنسا استعانت بالتنين الصيني لكي تستفيد من هذه التقنية. أما الأجهزة التقنية الحديثة مثل الهواتف النقالة والحواسيب المتطورة، بل حتى الأجهزة الكهربائية التي لطالما كانت لفرنسا إسهامات فيها فقد تراجعت باريس إلى مراتب متدنية. المستوى التعليمي في الجامعات الفرنسية يكافح حتى يبقى على الخارطة في ظل تقدم دول عديدة في مجالات البحث، نعم لقد حافظت فرنسا على وتيرة التطور في التعليم الجامعي ولكنها تجاهلت أن الآخرين تطوروا بسرعة فائقة وهم يهددون المكانة المرموقة للجامعات الفرنسية العريقة. أما الجهاز الإداري للدولة الفرنسية فحدث ولا حرج فقد ترهل على امتداد السنوات الماضية وامتنعت الدولة عن تطويره ودخل في كثير من الأحيان في إطار التجاذب السياسي. إذا كانت هذه بعض من مشكلات فرنسا، فهل استجابت البرامج الانتخابية للمرشحين للانتخابات الرئاسية في الربيع القادم لهذه التحديات؟


الإجابة باختصار لا، هذه البرامج حتى الآن دخلت في التنابز والمزايدة بل حتى الرفض للقيم الفرنسية التي ساهمت في رفعة هذا البلد وعلو شأنه. بدل الحديث عن النظام الإداري وعن الإصلاح الاقتصادي ومعالجة الخلل في النظام التعليمي، دخل المرشحون في نقاش شعبوي يحاول التعتيم على المشاكل الحقيقية، فكان المهاجرون والأجانب هم الطرف الأضعف الذي يمكن كيل الاتهامات لهم والحديث عنهم بعنصرية تجاوزت كل الحدود، حتى أن أحد المرشحين وعد بأنه إذا نجح في الانتخابات سوف يمنع بعض الأسماء لأنها لا تنسجم مع رؤيته العنصرية. فرنسا تعيش في أزمة، ليس فقط في المجالات التي أشرنا إليها، ولكن في نموذجها السياسي الذي دخل في مرحلة ترهل، يبدو كأنه دخل في حلقة مفرغة يصعب الخروج منها. فرنسا ما قبل الانتخابات الرئاسية القادمة تبدو حائرة وقلقة ومتوترة وفاقدة البوصلة.