-A +A
علي بن محمد الرباعي
مع طمية شمس يوم عمل شاق، عقّل الفقيه (بو مشخصة) عِداد سقي مزرعته، ومسح على ظهر الثور، قائلاً؛ علوّلك يا صبيح، اسبقني على البيت، واقتلع صكاك المشدود من الصافح، وقرّبه من البئر، وشدّ على ظهره المحالة، والدارجة، والسهمان، وطوى المقاط على ذراعه ثم علّقه في المناقل، وحمّل الغَرْب، ورفع القربة ليوازن بها الحِمل، واستغنم ما تبقى في القُفّ من ماء، فجدد الطهور، وسلك الطريق الأقرب لمنزله المتواري بين منازل، متلاصقة، كأجساد المحاربين.

ساق الحمار إلى طرف المسراب، ونادى بأعلى صوت (مشخصة، مشخصة) وأنا أبوك، تلقّي الصعب، وحطّي عنه العِداد، وارفعي كل شيء في معلاقه، لين أصلّي فرضي، وآجي، وانطلق من تحت جناح مسراب طويل، وفي المنعطف الأول نظر إلى ساعته الصليب، فسرّع الخُطى، صادف المؤذن، في طريقه، فتحاذت خطواتهما المتسارعة لبيت الله، وكادا يتخنطلان في بعضهما.


أراد المؤذن يصعد الدرجة، ليؤذن من سطح المسيد، فاستحبه (أبو مشخصة) بطرف الثوب من الخلف، وكاد يقع، لو لم يتلزّم في غصن الحماطة، فقال؛ وراك يا رجال بغيت تطيّحني، جاي تدوّر مغفرة، وإلا تاهب لنا طِلبة، قال الفقيه؛ وذّن من الظُّلة، تحسب ربي ما بيسمعك إلا إذا فرنشت علينا من فوق.

تبسّم المؤذن وقال؛ يخشعك خاشع الحيّات والسيّات، وأضاف؛ بعد بدري يا فقيه. ردّ عليه؛ أعجل أعجل أرفع الأذان، وخلّنا نؤدي فرضنا، أنحن من صبح في الوادي، ما رفعنا ظهورنا، وانت تدرج بكحلتك؛ من ذا بيته بيت أخوالي، كاد يقطع الأذان بالضحك لولا أن شاف غريباً مقبلاً عليهما، فافتعل الرزانة.

صلى معهم (الغريب) وانقضت الصلاة، والجماعة بعضهم ينعس وهو واقف، والبعض ما عاد فيه حيل ينوش الذباب عن خشمه، تناسلوا مع الباب، واحد ورا الثاني، قال المؤذن للفقيه؛ قم ما كنت مستعجل قبل ما تصلّي؟، فردّ عليه ؛ افلح بعد أسبّح وأتسنّن.

اختلى (أبو مشخصة) بالوافد، عابر السبيل، سأله؛ يا وجه الخير؛ أنت ضيفي، وإلا ضيف المسيد، فأجابه بصوت حييّ؛ إن كنت ضيفك، فمستحق عند كريم، وإن خليتني في المسيد فالله رحمن رحيم. فقال؛ ألحقني، قبل ما يصعد الدرج، طلب منه ينتظر، عند باب السافلة، دخل البيت، واستعجل (أم مشخصة) تنزّله الفانوس من الزافر، ولّعه، وأخبرها أن معه ضيف، وبيدخله في السافلة، فقالت؛ استح يا مخلوق، تخلي ضيفك مع الحلال، أطلعه، وإلا أطلعته آنا، فقال؛ قِبلت.

دخل على استحياء (وأم مشخصة)، تحاييه وتهلي به؛ زِلّ؛ زِلّ؛ حياك الله، وفرشت الجودري، في الركن المجاور، للمشبّ، وعنّزت له بالمتكأ، ونخشت من عِدلة التمر في صحن، وصبّت من الدلّة الراشقة ما قسم الله.

قبل ما يتعشون، أخذوا علوم ضيفهم، وتنشّدوه عن مقصده، وفوق العشاء كانت (أم مشخصة) تسرق النظر في الرجال، ونظراته، وطريقته في الأكل، فأخفت في نفسها ما الله مبديه، وبعد ما كثّر بالخير، قالت لمشخصة؛ قيّسي تلقيمة الشاهي، ولا تحرقين البرّاد، قال الضيف؛ والله ما يسوّيه إلا آنا.

بدأ يصب، ويروي لهم من القصص، والأشعار، فاستمال قلب البنت وأمها، وما أصبح عليهم تالي نهار، إلا والغريب شريك في الدم والدسم، ومرّت الأيام، وغدا الصوت الشادي، والآمر الناهي في البيت والوادي، ويسابق عمه بالكلام، والفقيه لا يتحرّف ولا يتصرّف إلا بشور زوج ابنته، وكل ما انفرد بنفسه؛ يردد صدق من قال (النازلة تقلع المقيمة).

شاف المؤذن حال صاحبه ما يسُرّ، فسأله؛ إن شاء الله ما عليك طاري خلاف يا رفيقي؟ فأجابه؛ صاحبك ما عاد يحلّ ولا يربط إلا تكة سرواله، علّق؛ تكبّر وتنسى وتأكل غيرها، أنا ما قُلت قم معي، تقول؛ بعد أسبّح وأتسنن، كان قمت وخليته للسكون، فعلّق؛ لا تلوم ولا تعاتب، مثل ما قال المقوّل؛ طِحت وإلا طيّحك الجمل، قال؛ قد وقّعت في النثلة.