-A +A
محمد مفتي
منذ إعادة هيكلة هيئة الرقابة ومكافحة الفساد من خلال دمج العديد من الأجهزة الرقابية بها، لا يمكن لأي متتبع أن ينكر الجهود الحثيثة التي تقوم بها للحد من الفساد، وبصفة شخصية عادة ما أفضل استخدام مصطلح «الحد من الفساد» بدلاً من «القضاء على الفساد»، فالفساد نبتة متجذرة مرتبطة أحياناً بسلوكيات فطرية غير سوية، تتواجد في أي مجتمع وفي أي زمان ومكان، وتتنوع صور الفساد ولعل أشهرها الفساد الإداري والأخلاقي والمالي، وقد سعت الهيئة لإشراك المواطنين في الجهود التي تبذلها لمكافحة الفساد، من خلال قيامها بإرسال رسائل دورية عبر العديد من القنوات والمنصات لحث الجميع على الإبلاغ عن حالات الفساد.

كما دأبت الهيئة على تقديم كشف حساب دوري لأنشطتها، يتمثل في تصريحها بعدد الحالات التي تم كشفها، وعدد من تم التحقيق معهم، والمؤسسات الحكومية التي شملتها تلك التحقيقات، وهو ما ساهم في رفع درجة الثقة في أدائها لدى المواطنين وأثمر في انخفاض ملموس في تفشي هذه الظاهرة الخبيثة، وقد وضعت الهيئة آلية للإبلاغ عن حالات الفساد تتمثل في ترك الحرية للمبلِّغ في أن يرفق اسمه ببلاغه أو أن يرفعه باسم فاعل خير، ولا شك في أن ذلك أدى إلى تشجيع الكثيرين لتقديم البلاغات، ولكن في المقابل رفع ذلك من مستوى الأداء التشغيلي للهيئة، وقد وضعت الهيئة آلية واضحة تحفظ وتحترم حقوق المواطنين وهي التحقق قبل التحقيق، فمن المؤكد أن الهيئة تعلم أن بعض البلاغات قد تكون كيدية غير صحيحة، الهدف منها هو مجرد تشويه صور بعض المسؤولين دون قرينة أو أدلة واضحة.


كثيراً ما تعتريني الدهشة عند قراءة بعض الانتقادات في مواقع التواصل الاجتماعي لمرفق حكومي يتناول خللا في إنشائه أو حتى في تشغيله، أو ظهور قضية فساد هنا وهناك، فمن المؤكد أن جميع الجهات الرقابية على علم بذلك، كما أن تلك الجهات الرقابية تتبع آلية محددة دقيقة عند تحقيقها في أسباب الخلل ومحاسبة المسؤولين عنه إن وجد، ووجود خلل في تشغيل بعض المرافق لا يعني وجود شبهة فساد بشكل مؤكد، فقد يرجع ذلك للعمر الافتراضي للمرفق نفسه، وهذه الآلية تستغرق بعض الوقت في التحقق ثم التحقيق كما ذكرت آنفاً، وعلى الرغم من وجود جانب مشرق في ظاهرة الإبلاغ عن الفساد، إلا أنها في نفس الوقت قد تتضمن جانباً مظلماً يتمثل في البلاغات الكيدية، أو المزاجية في بعض الأحيان، إن صح التعبير.

هناك كثير من الأشخاص يقومون بتفسير الفساد طبقاً لاجتهادهم الشخصي وليس من خلال الآلية التي تتبعها الهيئة، حيث يخلط البعض بين مفهوم المخالفة الإدارية والفساد، فبعض المخالفات الإدارية قد لا تتضمن شبهة فساد، بل تهدف إلى التغلب على البيروقراطية الإدارية في بعض الأحيان وبما يحقق المصلحة العامة، وقد يرى البعض في ذلك نوعاً من الفساد من وجهة نظره، إلا أن ذلك يختلف تماماً عن الفساد الذي يضمر صاحبه نية مبيتة تتعلق بتحقيق منفعة شخصية، من خلال استغلال النفوذ الوظيفي وتحقيق مكاسب غير مشروعة، وهو ما يتضح جلياً في كثير من الحالات التي تصرح بها هيئة الرقابة ومكافحة الفساد.

وكما أن هناك نفوساً غير سوية منخرطة في الفساد بصور شتى، فقد تكون هناك أيضاً نفوس غير سوية تستغل الجانب المشرق للهيئة والمتمثل في حث المواطنين على الإبلاغ عن حالات الفساد بالإسراع في تقديم شكاوى كيدية ضد هذا المسؤول أو ذاك، ولا يكون الهدف منها محاربة الظاهرة بل محاربة المسؤول نفسه، وقد يكون المبلّغ على خلاف شخصي مع المسؤول أو حاقدا على الإدارة أو المؤسسة التي يعمل بها، مما يدفعه إلى «البحث عن شبهة فساد» هنا وهناك ثم الإبلاغ عنها، وعلى الرغم من أن هذه الشكاوى الكيدية قد تكون صحيحة في بعض الأحيان، إلا أنها في حالات أخرى كثيرة تكون غير دقيقة وتتسبب في هدر وقت العاملين في الأجهزة الرقابية خلال تحققهم من صحة تلك الشكاوى.

سبق وأن تناولت قبل سنوات -وتحديداً في العام 2014- هذه القضية في مقال بعنوان «امسك حرامي» عن بعض الأشخاص ممن يرون الفساد في كل سلوك يقوم به بعض المسؤولين، حتى لو لم يكن هذا الشخص جزءاً من تلك الإدارة التي يقوم بتوجيه اللوم لها، بل قد يكون المبلِّغ أحد المنخرطين في قضايا فساد في مؤسسته، وقام بالتبليغ عن رؤسائه انتقاماً لعقوبة إدارية وقعت عليه من قبل المسؤول نفسه الذي قام بالتبليغ عنه.

من المؤكد أن استمرار وجود الفساد لا يعني إطلاقاً وجود تقصير في أداء الأجهزة الرقابية على اختلاف أنواعها، كما أنه لا يعني وجود خلل في المجتمع نفسه، فالفساد كما أسلفنا يتواجد في كل زمان ومكان بنسب متفاوتة، وبفضل الله فإن عزم قيادة المملكة العربية السعودية وجهودها للحد من هذه الظاهرة السلبية ساهم بشكل كبير في تقليصها، كما أنه رفع درجة الثقة بين المواطن والأجهزة الرقابية، وعلى الرغم من أن الإبلاغ عن الفساد ظاهرة صحية ومشرقة، إلا أننا نتمنى نشر ثقافة مكافحة الفساد كوازع ديني في المقام الأول والأخير، وهذا الجانب تتولاه الجهات التوعوية والتعليمية من خلال مؤسساتها ومنابرها المختلفة.