-A +A
نجيب يماني
ترمي علينا وسائل التواصل بمقاطع لدعاة تخطاهم الزمن ونسيهم الناس وحفظت بهتانهم الذاكرة المجتمعية، لعبوا بعقولنا زمناً، وأتوا بكل شاذ وضعيف في خطابهم المتشدد دون حجج شرعية أو أدلة من كتاب أو سنة، إن من يقوم ببعث هذه المقاطع من مرقدها إنما يحاول استعادة خطاب هذه التيارات المتشددة بعد أن أصبح المجتمع أكثر وعياً يملك رؤية طموحة مشبعة بروح الإسلام ووسطيته واعتداله.

تلقيت مقطع فيديو لداعية يقول فيه (إن النساء يطالبن أن يكن قاضيات، كيف تكون قاضية وهي لا تُقبل شهاداتها في الحدود ولا تقبل شهاداتها إلا في المعاملات وفي الأمور التي تخص النساء كالرضاع وغيره والحيض، فكيف تريد أن تكون قاضية وشهاداتها لا تقبل أصلاً في هذا وفي المعاملات (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) فجعل شهادتها على النصف من الرجل ثم تكون قاضية لا يجوز.


(على النساء أن يتقين الله تبارك وتعالى ولا يأخذن في أذهانهن بأن يعاملن معاملة الرجل بأن أصير وزيرة وقاضية، مضيفاً هذا انحراف عن دين الله، علينا أن نلتزم به ونتقي الله في ما نقول ونسمع). هذا ما ادعاه في مقطعه، وهو محض افتراء وكذب على دين الله، فليس هناك نص يحرم تولي المرأة مراتب القضاء المختلقة ووظائف الدولة العامة.

أجاز أبو حنيفة للمرأة أن تتولى وظيفة القضاء من غير (الحدود والقصاص)، فيمكنها أن تكون قاضية في محاكم الأحوال الشخصية تباشر قضايا الطلاق والخلع والسكن وما يتعلق بحقوق الحضانة والنفقة، والأولاد والعدة، وجرائم الأحداث وأحوالهم، فهي الأقدر بطبعها على الوصول إلى الحقيقة ومعرفتها.

وأجاز ابن جرير الطبري (تولي المرأة وظيفة القضاء مطلقاً وبكل درجاته وأنواعه دون قيد أو شرط)، وحجتهم أن وظيفة القضاء مثل وظيفة الإفتاء، والإفتاء لا يُشترط له الذكورة فكذلك القضاء فجاز أن تتولاه المرأة.

وذهب ابن حزم (المحلى) إلى توليها القضاء مطلقاً، كما ورد عن ابن رشد في بداية المجتهد بأن قضاءها نافذ في كل شيء وجواز قضائها في جواز فتياها، فالغرض من الفتوى هو الفصل بين الناس، فيجوز لها أن تكون قاضية، وليس كما ادعى صاحب المقطع.

يقول علماء الأصول إن كل من يصح منه أداء الشهادة ولو في موضع دون موضع، يصح منه القضاء في الموضع الذي تصح شهادته فيه، وذلك لأن كلاً من الشهادة والقضاء من باب الولاية، والشهادة أقوى من القضاء لأنها مُلزمة للقاضي مُلزمة للخصم، ومن هنا يقول ابن جرير لا تُشترط الذكورة في القضاء. ويؤكد حماد بن سلمة أنه يجوز للمرأة أن تكون قاضية في الحدود متفقاً مع عطاء التابعي.

يقول نبي الخير «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف»، والخطاب موجه للجنسين، فمن احترف منهم القضاء تولّاه. هناك من يرفض تولِّي المرأة القضاء متكئاً على عكاز ضعف المرأة بسبب وظائفها الفسيولوجية والطبيعية، مما يعيقها عن أداء مهامها، فالقاضي حين يحكم لا بد أن يكون في أفضل حالاته الإنسانية.

أثبت العلم أن الرجل ينتابه ما ينتاب المرأة من تغيّرات فسيولوجية شهرية تغيّر مزاجه وتعكّر طبيعته، والمرأة كالرجل تجوع وتغضب وتكتئب، فالمطلوب في تولي القضاء ليست ذكورة أو أنوثة إنما قدرات ومواهب.

يحق لها أن تتولى كافة وظائف الدولة العامة الإدارية والعسكرية وتكون مستشارة ومشورتها مكان اعتبار، فهي مأمورة في بناء المجتمع وعمارة الأرض بقوله تعالى (وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض) أي تعمرونها بالعلم والعمل، وقوله تعالى (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) للتأكيد أن للمرأة حق العمل كما للرجل ولاية على عمومها لم تشترط بمنصب أو تحدد بوظيفة، وقوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) والولاية تعني هنا الإمارة والسلطان، فليس هناك انحراف كما ادعى صاحب المقطع، بل الانحراف في تعطيل أحكام الشرع.

أما الشهادة فقد جانبه الصواب في استشهاده بالآية القرآنية (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) بمعنى إن نسيت إحداهما الشهادة لسبب ما فتذكرها الأخرى. فان شهدت المرأة الشهادة كاملة فشهادتها صحيحة مقبولة كشهادة الرجل فاشتراط الخالق امرأتين للتذكير في حالة النسيان.

أو إذا غيرت المرأة شهادتها بتأثير زوج أو عم أو خال أو ابن تحت ضغوط أو تهديد قد تنساق المرأة إليها فتدعي أنها نسيت أو أشكل عليها الأمر، فدور المرأة الأخرى تذكيرها فقط. والخليفة عمر قضى بأن شهادة النساء وحدهن كافية ومتقدمة على شهادة الرجال في الشؤون الخاصة بالمرأة، ولو أنه عاش أيامنا هذه ورأى نساءنا وقد تقلدن أعظم الشهادات وتسلحن بالعلم والمعرفة هل كان يرضى أن تقبل شهادة رجل جاهل وترك شهادة امرأة متعلمة.؟

يقول ابن قدامة إن كل من صحّ تصرّفه في شيء بنفسه وكان هذا الشيء مما تدخله النيابة، صحّ أن يوكل فيه غيره وأن يكون وكيلاً فيه عن غيره رجلاً كان أم امرأة. فتكون المرأة مأذونة أنكحة وعقود وقاضية ومُفتية، وليست الذكورة شرطاً في ذلك،

لا يصح إلا الصحيح، تولي المرأة للقضاء وغيره خطوة قادمة بمنظور رؤيتنا المباركة.