-A +A
منى المالكي
عشنا فترات التعليم الجامعي والدراسات العليا عبر دائرة تلفزيونية مغلقة لها ظروفها الأيديولوجية في وقتها مع الإهمال الشديد لفكرة القيمة المعرفية للتعليم العالي للأسف والتي تفرض عدم الاختلاط بين أستاذ وطالباته، فتعلمنا تعليماً منقوصاً باعتراف أستاذتنا وإحساسنا نحن بذلك، وكنا نعوض ذلك كله من خلال تكثيف قراءتنا وأنشطتنا والمناقشات المطولة في قاعات المحاضرات والتي نبذل فيها الجهد مضاعفاً لتعويض حالة المثاقفة العلمية -إن صحت التسمية- المفقودة!

تكرر ذات الأمر في ظل ظروف جائحة كورونا وتأثيرها على القطاعات المختلفة حول العالم، وقد عملت جميع الجهات على الحدّ من انتشار الفايروس من خلال إغلاق بعض القطاعات، ومنها: المدارس، والجامعات، وجميع المؤسسات التعليمية لكافة الأعمار، ووفقا لدراسة نُشرت في مجلة (Cureus Journal Of Medicine) في عام 2020م أظهرت أن هناك 150 دولة تقريباً أصدرت قراراً بإغلاق كافة المؤسسات التعليمية خلال جائحة كورونا، الأمر الذي أثّر في 80% من الكثافة الطلابية حول العالم، وتسبب ذلك بنقص عدد الطلاب المُنتسبين إلى الجامعات الرسمية، إذن نحن أمام تعلم مغلق باستخدام التكنولوجيا الحديثة هذه المرة والتي حققت نجاحاً متميزاً أثناء الجائحة مع اعترافنا بفاعليتها وحضورها الذي أسهم كثيراً في تجاوز مشكلات الحضور المكثف الذي كان من أهم أسباب العدوى وأبقى على الإجراءات الاحترازية ونجاحاتها، ولكن الإشكالية الكبرى هو في تعميم هذا النوع من التعليم وأن يبقى سمة التعليم القادم، ولهذا سلبياته الخطيرة على الجيل القادم، ولكن يمكن أن يكون التعلم عن بعد بنسب لا تتجاوز 25% كما كان معمولاً بذلك قبل الجائحة، وهو قرار جيد ويحل مشكلات تعليمية كبيرة، لكن أن يكون واقعاً تعليمياً جديداً هنا لابد أن نقف قليلا ونستشرف النظرة المستقبلية جيداً، ولأنه ومن خلال أبحاث ودراسات متعددة لا يُتوقع أن تعود العملية التعليمية إلى ما كانت عليه سابقاً، بل سيصبح التعلّم عن بُعد جزءاً من روتين الحياة الاعتيادي، عندها يجب التركيز على إيجابيات عملية التعلّم عن بُعد بالرغم من سلبياته المتعددة؛ وذلك من أجل جني ثمار هذه العملية والاستفادة منها قدر الإمكان.


تاريخياً في القرن الثامن عشر، بدأ التربوي الأمريكي كاليب فيليبس بتقديم سِلسلة أسبوعية من الدروس التعليمية عبر صحيفة «بوسطن جازيت». وفي ألمانيا، أسس مُعلم اللُغة الفرنسية شارل توسان وزميله جوستاف لانجنشدات مدرسة تعلُّم اللغات بالمراسلة في عام 1856م، وظهرت أوَّل جمعيَّة لتشجيع الدراسة في المنازل في عام 1873م. وبعد ذلك بسنة، أطلقت جامعة إلينوي الأمريكية عام 1874م أوَّل منظومة مناهج خاصة للتعليم بالمراسلة.

ثم تصاعد الاهتمام بالتعليم عن بُعد مع ظهور الإنترنت، إذ شهد عام 1985م بث أول برامج الدراسات العليا عبر الإنترنت. وفي التسعينيات صار بالإمكان استخدام الوسائط الحاسوبية وشبكة الإنترنت في التعليم ما قبل الجامعي. وفي عام 2002م، أطلق معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مُبادرة المُقررات التعليمية المفتوحة تتضمَّن نحو 2.000 مُقرر مجّاني، يستفيد منها أكثر من 65 مليون طالب في 215 دولة، ثم تصاعد التعليم عن طريق الإنترنت ليشمل عدداً كبيراً من النظم والطرق التي تعمل بشكل فعلي على أي جهاز متصل بالإنترنت.

ولكن للأسف نشأ عن ذلك سلبيات متعددة اتضحت بعد هذا الوقت من العمل على التعليم عن بعد، وأحدده على مراحل التعليم العام، حيث يفقد الطالب التواصل المعرفي المفروض تنميته في هذا السن تحديدا، كذلك الشعور بالوحدة والانعزال نتيجة لنقص التفاعل الاجتماعي، وتدني مستوى المهارات الشخصية لدى الطلاب، إضافةً إلى إمكانية تشكيك صاحب العمل في مصداقية الشهادة الناتجة عن التعلّم عن بُعد، ولكن يجب العمل على تجاوز هذه السلبيات ومحاولة حلّها بهدف استمرار العملية التعليمية، لذلك يجب الحذر من التركيز على التعلم عن بعد و دمجه بنسب معقولة مع التعليم التقليدي.

يقول ألبرت أنشتاين «نحن نعيش في عالم تجاوزت فيه التكنولوجيا البشرية تقريباً»، فكما يمكن للتكنولوجيا أن تجعلك تطير أعلى وأعلى في السماء يمكنها أيضاً وفي نفس الوقت أن تدمر حياتك بملامحها السلبية، كما يمكن للتكنولوجيا أن تعزز معرفتك، ولكن وفي نفس الوقت يمكنها أن تخفض درجتك في التعليم.