-A +A
نجيب يماني
أي خبر شؤوم طارت به النّواعق..

وأيُّ ثلمةٍ رُزئت بها..


وأيُّ فتقٍ بليت به اليوم..؟

ما كان هذا الوعد يا صاحبي.. ألم تهاتفني قبل رحيلك بيوم واحد، وقلت لي أنا راجع، وضربت موعد اللقيا في منزل الشريف ناصر المنصور كما تعودنا كل أسبوع..؟

كان صوتك كما عهدته، مشرقاً بالحياة.. مشبّعاً بالمحبة في أطياف المودة التي تبثّها في ثنايا سلامك، وسؤالك عن الأحباب، واستدعائك للذكريات.. ألم تقل لي لا تذهب إلى القاهرة وحدك، انتظرني لنذهب سوية نهاية هذا الشهر، تغريني بشراء الكتب وزيارة المكتبات وصحبة النيل وأنغام أم كلثوم وشجن عبدالوهاب.

لم يكن ثمة ما ينبئ بكارثة ستحل، أو مصيبة ستهبط علينا برحيلك.. ولكن القدر كان يرتب رحلة أخرى لعزب.

صوتك لم يكن فيه ما ينذر بأيِّ باعثٍ للقلق، بل كان محمولاً على البشارة بتمام العافية، واكتمال الشّفاء من ذلك الدّاء اللّعين.. الذي نغص عليك حياتك، وأفقدك وزنك، وجعل الحياة في نظرك أضيق من خرم إبرة.

كنت تستندي ساعة العودة إلى الوطن، وتبثّني الشّوق إليه، وتستوحش من الغيبة عنه، تسألني بلهفة عن أحدية محمد سندي، وخميسية عبدالقادر مغربي، وثلوثية أبو الشيماء، وبقية الأصحاب، كانت جدة بالنسبة لك الأنس والمحبة.. الإيلاف والمودة.. وأنت لها محب، متطلعاً لمزيد من العطاء، ليضاف إلى ما أنجزته في عمرك الحافل بما تشرق به صفحات الأيام، وتفخر به النّفوس المجبولة على علوِّ الهمّة، ومضاء العزيمة..

ماذا أبقيت لي بعدك يا صاحبي بهذا الرحيل الفاجع، والغياب الممض الموجع.. غير أطياف الذكرى أقلّبها في مجامر الوجد والأسى المتقد في صدري برحيلك..

وأنا الذي نعمت بصحبتك طيفاً من عمري منذ صباي الباكر.. في مدرسة العزيزية الثانوية في مكة المكرمة، فكانت نعم الصحبة والصداقة تلك.. وفرقنا طلب العلم أنت إلى أمريكا، وأنا اخترت قاهرة المعز، وعدنا إلى أرض الوطن الغالي لنخوض غمار الحياة وصخبها.

تلاقينا في الميول إلى المعرفة، وسدانة الحرف، وعشق الكتابة.. واقتناء كتب الفكر والعلم والأدب.

سرّحنا الخطى فرحاً وعافية في دروب أم القرى وجدة، وسجّلنا في طرقاتهما وأحيائهما العتيقة ذكريات عزيزات، ومواقف لا ينقطع سيل اعتزازي بها..

كنت لي نعم الأخ النّاصح، والصديق الوفي، والخلِّ الصّدوق..

أغالب دمعي الآن وأكفكفه يا صاحبي.. وأتجنّب عمداً أن أمضي في تصديق أنّك قد رحلت عن هذه الفانية.. وأنّ سراجك قد أطفأ قنديله وانزوى.. وقلمك قد توقف عن الرّكض في سوح الطّروس.. وأنا الذي كنت أتشوّف شوقاً لمعانقة حروفك كل أربعاء في زاويتك بـ«عكاظ» عند كلّ إطلالة.. كنت صاحب مخزون ثقافي تتعدد روافده، وألفاظ جميلة ارتبطت مع عقل القارئ.

أيُّ دفق من العلم توقّف.. وأيُّ سيل من مداد الوعي جفّ واندلق.. وأيُّ صوت قد انحسر وتوارى في أضابير الصّمت المطبق..

لا أرثيك يا صاحبي.. ولكني أرثي نفسي التي بين جنبي..

سأفتقدك نعم، ولكني سأوقد شموع الذكرى في ليل حزني الطويل بصحبتك، فأنت مقيم في فؤادي ما بقي فيَّ عرق ينبض، ورئة تتنفّس..

أعلم أنّ الموت حقٌّ.. وقدرٌ مسطور لا فرار منه ولا محيد عنه.. وأنا على يقين بأننا، وإن طال العمر أو قصر، إلى الله آيبون، وله عائدون.. نضمر ذلك يقيناً في سرائرنا، ونصرّح به عند نزول مثل هذه الفواجع الطامات:

فأفجعُ مَنْ فقدنا، مَنْ وَجَدنا

-قُبيلَ الفقد - مَفقودَ المثالِ

كلماتي أقصر من قامة حزني، وحزني يمتد عميقاً في روحي، تجمد المداد في مآقي القلم حزنا على رحيلك يا فؤاد، فلن استطيع الاسترسال.

فاللّهم إنّي أسألك أن تكرم وفادة أخي وصديقي فؤاد عزب عليك، وأن تلقّنه حجته عند المسألة، وأن تجعل الفردوس الأعلى نزله ومستقرة، وأن تجمعنا به في مقعد صدق عندك. وأن تلهم آله وذويه ومن إليه بالمحبة ينتمي، الصبر وحسن العزاء.. والشكر والعرفان لصديقنا المشترك محمد البيز الذي رافق فؤاد في رحلته ذهاباً وإياباً محبة وإيثاراً..

وإنا لله وإنا إليه راجعون.