-A +A
طلال صالح بنان
التطورات الأخيرة في أفغانستان لم تنل فقط من متغير القوة في العلاقات الدولية، لكنها أيضاً: فرضت إعادة النظر في نظام الأحلاف العسكرية، التي ترسم خريطة الإستراتيجية القطبية، لتحديد المجالات الحيوية لنفوذ ومناطق الدول العظمى، التي تتنافس من أجل الهيمنة الكونية.

من أهم وظائف الأحلاف العسكرية الالتزام بإستراتيجية الأمن الجماعي، وإن اختلفت نسب تحمل تكلفته بين الأعضاء. بالتالي: لا يمكن لأي قوة عظمى، أن تتكفل مواردها الذاتية بمسؤولية أمنها القومي، دعك من الزعم بقدرتها وحدها التصدي لمسؤوليات وتكلفة مكانة الهيمنة الكونية. في المقابل: يتطلب إنشاء الأحلاف العسكرية، أن تتكفل الدولة الرئيسية في الحلف العسكري بتغطية جزء كبير من تكلفة حماية الدول الأعضاء الأخرى، في مقابل توقع تبعية سياسية، للدولة الأم.


أُسس حلف شمال الأطلسي «الناتو» (٢٤ أبريل ١٩٤٩) لحماية ما يسمى بالعالم الحر بقيادة الولايات المتحدة من أي عدوان محتمل من قبل المعسكر المناوئ بزعامة الاتحاد الاتحاد السوفيتي، الذي بدوره أسّس، ولنفس الغرض، حلف وارسو (١٤ مايو ١٩٥٥).

لا انهيار الاتحاد السوفيتي ولا حَلْ حلف وارسو (١٩٩١) قادا إلى الإحساس بالأمان من قبل أعضاء حلف شمال الأطلسي، حتى بعد توسيعه بانضمام بعض دول أوروبا الشرقية. الخوف من الشرق (روسيا والصين) ظل ماثلاً، مع تطور عدو جديد (الإرهاب). ظلت الولايات المتحدة ملتزمة بمسؤوليتها الدفاعية في «الناتو»، حتى جاء الرئيس السابق دونالد ترمب عندما طالب شركاءه الأوروبيين في الحلف بمساهمة فعالة لضمان استمراره، وزيادة نصيبهم في ميزانيته.. بل ومطالبتهم بدفع ما قدمته أمريكا من معونات اقتصادية لإعادة الإعمار وضمان أمنهم، بأثر رجعي!

رغم أن حكومة الرئيس بايدن أعادت التزامها بأمن حلفائها في «الناتو»، إلا أن أحداث أفغانستان الأخيرة، وتقديم واشنطن أولوية إخراج عسكرييها ومدنييها من أفغانستان وترك رعايا حلفائها، الذين شاركوها في الغزو (٢٠٠٢)، وبقوا معها عشرين سنة هناك، كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، بالنسبة للأوروبيين.

صحيح أن احتمال خذلان أمريكا لشركائها في الحلف، ليس جديداً، بل كان حاضراً في ذهن الدول الرئيسية في الحلف. في أوج عهد الحرب الباردة، عندما طورت بريطانيا وفرنسا رادعهما النووي، كان ذلك إيماناً منهما بأنه في أي مواجهة نووية محتملة بين موسكو وواشنطن، فإن الولايات المتحدة، لن تضحي بواشنطن ونيويورك في ما لو أقدمت موسكو على مهاجمة لندن وباريس. هذا قاد فرنسا (١٩٦٦) الانسحاب من الشق العسكري في اتفاقية حلف شمال الأطلسي.

اجتماع وزراء الاتحاد الأوروبي يوم الخميس قبل الماضي في مدينة كراني السلوفينية، أظهر امتعاض حلفاء واشنطن في «الناتو» من عدم مشاركتهم في مفاوضات الانسحاب من أفغانستان، وما بدا من عدم اكتراث واشنطن برعايا حلفائها هناك. لقد لخص مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي (جوزيب بوريل) الأمر بقوله: إن ما حدث في أفغانستان أظهر النقص الخطير في استقلاليتنا الإستراتيجية.. وشدد: أن الحاجة ماسة لتشكيل قوة ردع أوروبية مشتركة.

أحداث أفغانستان الأخيرة أضعفت نظرية الأمن الجماعي الكوني، مما ينذر بنهاية عهد الأحلاف العسكرية العملاقة، التي تقوم على التزام قوة كونية بعينها، بمسؤولية حفظ استقرار النظام الدولي. إنها بداية النهاية لحلف شمال الأطلسي.