-A +A
علي بن محمد الرباعي
جاء في الحديث النبوي أن من علامات الساعة (تطاول الحُفاة العُراة الرعاة في البنيان)، ومُحدّثكم وُلِدَ لأبوين كريمين، أبوه فلاح وسائق، عليه رحمة الله، وأُمه كادحة، أسبغ الله عليها ثوب عافيته، وألبسها لباس الصحة، وكلاهما (الأب والأم) تيتّما من جهة الأب، فلم يعرفا أباهما، فعاشا طفولة شاقّة، وبائسة، عنوانها الحرمان من الضرورات، ناهيكم عن الحاجيات، وأقسم أبي -رحمه الله- أنه في يوم من أيام شبابه، ومن شدّة الجوع وانعدام الريال، لم يجد إلا مزرع فلفل حار، فأكل منه حتى بكى من الحرقان، ومن شعوره، بالأسى على النفس، عندما لم يجد مابه يقيم الأَوَد.

كادت أُمي تلدني رأس البئر، ونظرت للسماء، فعلم الله ما في نفسها، وأعانها بفضله، حتى عادت للبيت من طريق صاعد يربط بين وادينا وبين القرية، وتروي (ربيع قلبي) شفاها الله، ما جرى يوم الخميس، قائلة؛ ما إن علّقت القربة حتى اختارت لي عمّتي (جدتي لأبي أمي رفعة) رفع الله درجتها في عليين، زاوية حادة جنب المشبّ، وساعدتني على تجاوز المخاض، وتناولتك بيديها، وسمّتك «عليّاً» بحكم أن الولادة تزامنت مع يوم عاشوراء، وقصّت حبل سُرّتك، ودفنته في آثر قطعة زراعية، لكي تحب البلاد، كما لا يحب البلاد أحد.


كان أبي كريماً، وغالب الأيام مُعدماً، إلا أنه عزيز نفس، وذو كبرياء، وأنفة غير مصطنعة، ولكنه متواضع ومحب للناس وله علاقات مع عِلية القوم ومع البسطاء. أكثر أحاديثه لنا في دروس شبه يومية عن زمن الفقر، وأن القمل مشى في رأسه، وكان أخواله يسرحونه بالغنم فيفطر، ويتغدى، من خشاش الأرض، وكثيراً ما يطلبنا نفتح باطن الكفوف، ليتأكد أن لنا أيادي حرشاء، ويردد (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم)، وغرس في أذهاننا فضل الدولة في التحولات ورفع مستوى الناس تعليمياً واجتماعياً واقتصادياً.

تعلّم والدي سياقة المركبات، وعمل مع وزير النفط عبدالله الطريقي رحمه الله، ثم سائقاً عند الشيوخ، ثم في إدارة الثروة الحيوانية مع مديرها الأديب عابد خزندار رحمه الله، ثم في مواصلات الباحة، ثم في الزراعة، ورضي من الغنيمةِ بالإياب للباحة والاستقرار في القرية، وكان برغم محدودية تعليمه مثقفاً، جمع معرفةً وسلوكاً حضارياً، وانتمى للتقدمية عملياً، وللفلاحة وجدانياً، وتقاعد وراتبه نقص عن أربعة آلاف ريال، إلى النصف تقريباً.

تربيت مع ثلاثة إخوة، وست أخوات (حفظهم الله)، في بيت من حجر وطين، وكثيراً ما سرّاها (أبو العطايا) على قريتنا بالسيل طول الليل، والقُطّار يخترق السقف، ويبلل أجسامنا وفُرشنا، ونحن أسرة منتجة شأن أكثر مجتمعنا، ننطلق مع الفجر، نحمي الزرع، ونخصّب البلاد، ونرعى الغنم، ونشرب معها من غدران، وغيول، راكدة ومتحركة، وثيابنا من العيد إلى العيد، والملابس الداخلية إن توفرت، وإلا سدّ عنها ثوب ملوّن، وأدركنا زمن، كانت فيه حالتنا حالة والعيشة نُخالة، وكم ليلة نمنا على لحم بطوننا، وكنا نحزن لفوات بعض الوجبات النهارية، فنعوّضها، بما تجود به الأودية، ونتضوّر جوعاً لحرماننا من العَشاء لأي من الدواعي والأسباب، فتسعفنا الأحلام بما لذ وطاب.

نعمل عمل أُجراء، ننظف الساحات ونحوق دمن المراح، ونشفط القاز من برميل ندحرجه بعد تعبئته من الشاحنة الدورية، ونبلع منه عندما نكلّف بتعبئة الطباخة والدافور، ونلمّع قزاز الإتريك، ونصرم البرسيم، ونقصّع عذوق الخريف، ونقلّع البطاطس والجزر، ونلقط القوطة، ونجني اللوز، وإن مرّ يوم دون عمل وإنتاج لا يُحسب من أعمارنا ولا أعمالنا الصالحة، وينسى أهلنا كل ما أنجزناه من قبل.

زارنا مرةً صديقٌ لوالدي بأولاده، وكان ثوبي الوحيد مشتوراً من الجنب، وكنتُ أصب القهوة واقفاً، وكلما التفتوا نحوي نكّستُ رأسي خجلاً، وقطعتُ مسافات مع الأغنام حافياً، وفي يوم مطير ولدت إحدى الشياه صغيرين لايقويان على الوقوف، فحملتهما في عمامتي، خوفاً عليهما من البَرْدِ والبَرَد.

لولا فضل الله علينا بهذه الدولة السعودية، وقادتها الكرام، وعناية حكومتنا بنا تعليماً وتوظيفاً، لربما كنا في أوضاع صعيبة، وظروف عصيبة، ولكل شيء سبب ومن لم يؤمن بالأسباب فلا إيمان له بمسببها، وصرت بشوية المعرفة التي تفضلت بها علينا الدولة، شايف نفسي، وكأن ما فوق الرأس رأس، وما يقطع رقبتي سبعة سيوف.

توفّى الله أبي قبل ثلاثين عاماً، فأهملتُ الوصايا، هجرتُ الزراعة، وبعتُ الغنم، وتناسيتُ أيام الفقر، وتداولت في سوق الأسهم، واقتنيت سيارات، وغدوتُ خبيراً ثقافياً، وناشطاً اجتماعياً، ومحللاً سياسياً، وتطاولت في البنيان علماً بأنني من الحُفاة العُراة الرعاة.

تعوّدت أنام بشماغي، وعقالي فوق رأسي، ونظارتي على أرنبة أنفي، وكنادري مربوطة في رجلي، وأتعطّر بأحدث المنتجات الباريسية، وأُحدّث أولادي عن الثراء والفخامة، التي توارثتُها كابراً عن كابر!.