-A +A
نجيب يماني
أمران؛ لا أتراحب فيهما بالتغاضي صفحًا، ولا أجد في نفسي سعة للتجاوز أو التغافل عنهما سماحة، كما أنّي لا أقبل فيهما مهادنة باعتذار فاتر يتحرّك بمفاصل المجاملة العارضة، والترضية العابرة، لكونهما ينطويان على نفس سقيمة بسخام الموجدة، وعليلة بأدران الغرض.. أول هذين الأمرين: «تقويلي» ما لم أقل؛ وبناء حكم قيمي على شخصي أو ما أكتبه تبعًا لذلك، والأمر الآخر: فقدان الأمانة في النّقل، المفضي إلى الكذب والتدليس، ومحاولة «تجييش» الآخرين إيهامًا وإيحاء بمطاعن تستبطن اتهامات خطيرة..

فالآفة الأولى مبعثها مساقط الشّك النازلة على خاطر صاحبها، فتحمله على البحث ما بين السطور، مدفوعًا بغريزة «تفتيش النوايا»، فيغضّ الطّرف عمّا هو واضح أمامه بالأسانيد والبراهين والأدلة، ويتبنى ما ينبني في وهمه من محصلة الظنّ والشّك والارتياب، فهي في حكمه: «عنز ولو طارت»، ليصدق عليه قول المتنبي:


إذا ساءَ فعلُ المرءِ، ساءتْ ظُنُونُه

وصدّقَ ما يعتادهُ من توهّم.

وأمّا الآفة الأخرى، فهي أنكأ وأمر؛ كونها تصدر عن نفس ملتاثة الطويّة بأدران البغض والكراهية، ولا حيلة لها لنفث ما هي معتلّة به إلا عبر الكذب والتدليس وتشويه الصور.

أقول هذا؛ وقد ساءني كثيرًا أن يعلّق «أحدهم» على مقالي المنشور في هذه الصحيفة يوم الإثنين الماضي غرة محرم 1443هـ تحت عنوان: «إنما النسيء زيادة في الكفر»، بتغريدة على حسابه الشّخصي بموقع التواصل الاجتماعي «تويتر»؛ اجتمع فيها الأمران اللذان أشرت إليهما في مستهل هذا المقال: «التقويل» و«الكذب والتدليس»، حيث «غرّد» قائلاً: (في مثل هذه الأيام يبتلى الناس بمن يقطع عليهم طريق عبادتهم ومن هؤلاء من ذكروا أن يوم عاشوراء أكذوبة ظنًا منهم أن سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام صامه متبعًا اليهود وليتهم تواضعوا وسألوا غيرهم)..

فصاحب هذه «التغريدة» قوّلني ما لم أقل على الإطلاق، ففي مقالي لم أذكر «أن يوم عاشوراء أكذوبة»؛ بل اجتهدت في تبيان تضارب الأقوال واضطراب الأحاديث المنقولة والواردة في هذه القضية، وسقت الحجج على ذلك من أقوال علماء معتبرين في هذا الفن والعلم، فليس من المنطق والعقل أن يقتدي رسولنا الأمين بكفار قريش ومشركي مكة ويصوم معهم قبل البعثة الشريفة أو يسأل اليهود عند هجرته إلى المدينة عن صيام هذا اليوم وينتظر عشر سنوات ثم يصومه وهو قد طرد اليهود من المدينة في السنة الخامسة من الهجرة فكل حديث عن يوم عاشوراء يناقض الحديث الذي قبله وكنت أنتظر من صاحب التغريدة -وقد دعانا للتواضع وسؤال غيرنا عن هذا الأمر- أن يتفضّل علينا بتفنيد الحجّة بالحجّة، ويساجلنا على قاعدة الاحترام المتبادل، فمقالي منشور للرأي العام، وقابل للأخذ والرد، بما يثري ساحة العلم، ويفتح للقارئ نوافذ الوعي، وعلى هذا تكون أخلاق العلماء والمتعلمين، وحتى «المتطفلين» على موائد العلم، وأنا منهم.. هذا أمر بدهي، وإنّني على أتم الاستعداد لقبول أيّ رأي يخالفني، شريطة أن يكون محمولاً على الحجّة النّاصعة، ومسنودًا بالوعي الباصر، ومستوفيًا لشروط الاجتهاد من عقل وقّاد..

وزاد صاحب التغريدة الأمر «ضغثًا على إبّالة»، وهو يكذب عليّ صراحة، ويطلق بشأني حكمًا قيميًّا غاية في الخطورة في قوله: «.. في مثل هذه الأيام يبتلى الناس بمن يقطع عليهم طريق عبادتهم»، ويتجلّى هذا التدليس في قوله: «ظنًا منهم أن سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام صامه متبعًا اليهود»، فعلى العكس من ذلك تمامًا ذكرت في المقال ما نصه: «.. يقولون إن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى اليهود يصومون هذا اليوم فصامه وأمر بصيامه، فهل يقتدي الرسول باليهود والنصارى؟ كلا. العبادة لا تؤخذ إلا من الله، ولا يصدق عاقل أن نبي الأمة يتبع شرائع اليهود، محرفي شريعة موسى في فرض صيامهم علينا»..!!

أيعقل أن يكون صاحب التغريدة من ضعف البصر بحيث لم ير هذا المكتوب، الذي لا يحتاج إلى كثير فهم لإدراك مقاصده، وبيان مراده، ولكن عوضًا عن ذلك يدّعي «صاحب التغريدة» نقيضه تمامًا، ويبني عليه الحكم بأنّي ممن «يقطعون على الناس طريق عبادتهم».. وهي عبارة عندي تقوم مقام اتهام ملفق، يتعدّى محيط «المجانية» التي أرسل فيها، طالما بقي هناك «قطيع» ممن استسهلوا مثل هذه الاتهامات، وزكموا بها معاطس الفضاء، وصارت وقودًا للتكفير، والرمي بالتفسيق والتبديع والتجهيل.. وهنا كانت بليتنا العظيمة، التي رزئنا بها ردحًا من الزمن، فليت صاحب التغريدة سلمت له الطوية، وأنس في نفسه كفاءة السجال، وانبرى بحجته، فما نشرناه طرح على الملأ، وقدمنا له الحجة والبرهان وفق ما ارتأينا، ولو ساجلنا غيرنا وأورد ما هو أكثر إقناعًا، فله منا الاعتراف بفضل العقل ورجحانه، وسعة المعرفة، ونصاعة البرهان، وأما دون ذلك فلا..

أكتفي بهذه الإشارات؛ وإن كان في النفس الكثير، غير أني أشير من باب النصيحة -لي ولغيري- أن نتعافى من غوائل تفتيش النوايا، وأن نجعل الحقيقة الناصعة بغيتنا المنشودة في كلّ ما نكتب، نتوسل إليها الطريق عبر «الحجة» التي هي مناط بحثنا، فبها نخلّص «العبادة» من أسر «العادة»، لنؤديها باطمئنان لا ريب فيه، ويقين راسخ بأنها قربى وزلفى الغاية منها رضى الله لا أكثر.. وسأعقد أجفاني بأجفان الوقت أنتظر من صاحب التغريدة مقالاً ثقيل الوزن في ميزان المعرفة، لا «تغريدة» ملغمة في بيدر الجهل والاتهام!