-A +A
منى المالكي
ومازال السؤال أيهما أولى بالشعر تقويماً ونقداً وفهماً ومعرفة؟! الشاعر أم الناقد؟! هذه الحيرة وهذا الارتباك انتصر فيه الشعراء في جولة وحجتهم في ذلك أن الناقد «لا يستطيع معرفة الهيجان الداخلي للشاعر أثناء عملية الكتابة»، كما يقول ذلك د. عبدالله العشي في كتابه «أسئلة الشعرية» وكيف يعرف الناقد ذلك والشعراء أنفسهم لم يتوصلوا إليه. هم حقا يشعرون به، ويعانون آثاره لكنهم لا يحسنون التعبير عنه! وكل هذه المحاولات من الشعراء لم تنجح في اكتناه عملية الإبداع ولم توضح كيفياتها وإنما أشارت إلى آثارها الخارجية وما يرافقها من أحوال تتصل بسلوك ظاهري يسبقها أو يعقبها. ومهما يكن من أمر فإن وصف الشاعر لشعره يبقى أهم بكثير من دراسات النقاد! وقد جسد النص الشعري ذلك، فنزار قباني حينما يقول: هكذا أنا

منذ احترفت الحب


واحترفت الكتابة

لا قصيدة تخرج من بين أصابعي

إلا وهي ساخنة كرغيف الخبز

فنزار هنا يقرر بكارة المعاناة وسخونة التجربة، فالإبداع الشعري انفعال حار لا يمكن أن يكون باردا.

تتحدد قيمة هذا الكلام بكونه صادراً عن ممارسة ومن ثم جاء وصفه متسقاً مع واقع التجربة الشعرية التي تختلف من شاعر إلى آخر، كما أنها تختلف لدى الشاعر ذاته وفق تعدد الأحوال وتباين المقامات.

إن ثمة اختلافا كبيرا بين الإبداع الشعري والدراسة النقدية، كل عملية منهما تتسم بعدد غير قليل من الاستقلال والتمايز، غير أنهما تتكاملان من وجهة أخرى هي وجهة خدمة النص الشعري، فالدراسة النقدية تدور حول بنية النص الشعري، تحاوره وتسعى إلى بيان ظلاله وفك شفراته وربما تذرعت بالتأويل لبيان مقاصده ومراميه، كما أن المتلقي ربما كان في حاجة إلى الناقد بوصفه قارئاً أكثر وعياً وأقدر على التعاطي مع بنية الشعر ذات التشكيل المتفرد. ومن أجل ذلك لا أتفق مع الرأي الذي يقرر أنه لا بد لعمليتي الشعر والنقد أن تتغلب إحداهما على الأخرى، «لتكون إحداهما الحقيقة والأخرى الظل على أي مستوى من مستويات الحقيقة والظل، وعلى هذا فكل شاعر يمتلك شيئاً من الحاسة النقدية، وكل ناقد يمتلك هو الآخر بعضاً من الحاسة الشعرية وإلا لما كان بينهما التقاء أو تقارب».

فالسير الشعرية مثلا تلقي أضواءً كاشفة على الإبداع الشعري وتضيء جوانب مهمة من التجارب التي يكابدها الشعراء، وهو جانب لا يمكن أن يتوفر في دراسات النقاد حول التجربة الشعرية وهو خطاب نثري يختلف عن الخطاب الشعري.

ومن أبرز ما تتسم به هذه الكتابات أنها تكاد ترادف الإبداع الشعري ذاته، بما تنطوي عليه من رؤى فكرية ومشاريع تجديدية، ومن يرجع إلى هذه الكتابات يجد معيناً لا ينضب من تصورات الشعراء حول نتاجهم الأدبي والفكري بوجه عام.

ومن شواهد صدق ذلك هذه العبارة التي اجتزأتها من كتاب: ينابيع الشمس وهو السيرة الشعرية للبياتي: «كان شأني وأنا أكتب السيرة -المذكرات هذه- كشأني وأنا أكتب الشعر، إذ كلما انتهيت من كتابة قصيدة أشعر أني سحابة أمطرت كل ما عندها وظلت تنتظر موسماً آخر لكي تستعيد عافيتها فتمطر من جديد، وقد أحسست بمحنة كبيرة عندما نشرت ديوان أباريق مهشمة فقد كنت أتجول ما بين الوهاد والوديان والقمم لكي أبدأ رحلتي من جديد، وكنت أحس أنني لم أستعد توازني بعد هذا إلا بعد كتابة ديوان النار والكلمات. وما يصح على تجربتي الشعرية يصح تماما على هذه المذكرات التي تأتي بعد ما يقرب من ربع قرن، حيث كانت تجربتي في كتاب حمل الاسم نفسه وصدر عام 1968».

من مضمون هذا النص تشع إشعاعات ذات أهمية كبيرة في تحديد قيمة ما يصدر عن الشعراء من تصورات نقدية، وهي بالطبع تفوق إسهاماتهم النقدية التي يعبرون عنها شعرا، وهو أمر منطقي؛ لأن بناء الشعر لا يمكِّن الشاعر من قول كل شيء.