-A +A
نجيب يماني
ليس بالعسير على أيّ متابع لمباحثات سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا، أن يلحظ بوضوح أن الأخيرة غير راغبة على الإطلاق في أن تفضي هذه المباحثات إلى التواطؤ على اتفاقية قانونية ملزمة لجميع الأطراف، تشمل أدقّ التفاصيل حول عملية تشغيل هذا السد.. ومظهر هذه الرغبة -غير المعلن عنها- يتجلّى في الدائرة المفرغة التي ظلّت المباحثات تجتمع عليها وتنفض دون أن تحرز أيّ تقدّم، في أيّ قضية من القضايا المطروحة، وكان آخرها في العاصمة الكنغولية كنشاسا، التي ربما شكّلت المنعطف الأخير نحو ذهاب الأطراف الثلاثة إلى بحث «خيارات أخرى» بديلة عن هذه المباحثات، التي تصفها كثير من الدوائر المهتمة بـ«العبثية» على خلفية عدم وصولها إلى توافق بالحد الأدنى على ما يمثل منطلقاً لاتفاق ملزم..

من الواضح أن هذه المماطلة الإثيوبية تهدف بشكل أساسي إلى كسب رهان الوقت من أجل إتمام مشروع السد بالصورة التي تخطط لها، وصولاً إلى الغاية بـ«فرض الأمر الواقع» على دولتي المصب؛ السودان ومصر، ولعل ما يؤكد ذلك توالي التصريحات من قبل المسؤولين الإثيوبيين، التي تعتبرها دولتا المصب «مستفزة» خاصة أنها تفتح قضايا شبه مسلم بها؛ مثل قضية حصص المياه، التي باتت تعترض عليها إثيوبيا بشكل علني وصريح، ولعل حديث وزير خارجيتها ديميكي ميكونين، مؤخراً؛ بمناسبة الذكرى العاشرة لبناء سد النهضة قد بلغ الغاية من وضوح النوايا في هذا الجانب حين أشار إلى أنه «لا يمكن لأحد أن يحرم إثيوبيا من نصيبها البالغ 86% في نهر النيل»، وأن «عملية استكمال بناء سد النهضة ليس من أجل مستقبل الأجيال؛ بل هي مسألة حماية لسيادة الدولة». وذهب أبعد من ذلك إلى التأكيد على رفض بلاده القاطع لأي محاولات رامية لإجبار أديس أبابا على القبول بـ«اتفاقية استعمارية» بشأن سد النهضة، في سياق الرد على إصرار السودان ومصر على تدويل قضية مباحثات السد بما يشمل مجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي، وعدم الاكتفاء بالاتحاد الأفريقي الذي تصر عليه إثيوبيا، بشكل وضع الكثير من علامات الاستفهام لدى دولتي المصب، في ظل عدم قيام الاتحاد الأفريقي بدوره المنوط به في هذه القضية، وعدم تقديمه لأي حلول عملية في هذا الصدد، بما وسّع من دائرة الاتهام بـ«التواطؤ» مع الموقف الإثيوبي، بالنظر إلى احتضان أديس أبابا لمقر هذا الاتحاد..


وبعيداً عن تفاصيل كثيرة يمتلئ بها ملف هذه القضية الشائكة، فواقع الحال يشير إلى أن إثيوبيا شرعت بالفعل نحو مرحلة الملء الثانية، مستفيدة من موسم الأمطار في شهري يونيو ويوليو المقبلين، وهو ما أعلنت عنه صراحة في أكثر من مناسبة على لسان رئيس وزرائها، أو وزير خارجيتها، وغيرهما وهو ما ترفضه دولتا المصب بشكل قاطع وحاسم، والتصريح بأن الخيارات أمامهما ستكون مفتوحة على «كافة الخيارات» إذا أصرت إثيوبيا على خطوتها من جانب أحادي..

وبانعدام أي أفق للتوافق والتوصل إلى اتفاق مرضٍ لكافة الأطراف بشأن السد في المنظور القريب؛ فمن الواضح أن المرحلة الثانية من الملء ستتم من الجانب الإثيوبي، قياساً على نهجه المستمر بفرض سياسية الأمر الواقع، وفي هذه الحالة سيتعيّن على دولتي المصب أن تمضيا في طريق «الخيارات المفتوحة» التي أعلنتا عنها في مناسبات عديدة، بلغة لا تخلو من تهديد ووعيد، على قرار سياسية «حافة الهاوية»..

وبالغاً ما بلغ تقدير هذه «الخيارات المفتوحة»؛ فإنّها لن تخرج عن أحد مسارين؛ دبلوماسي، وعسكري.. ويبقى الخيار الدبلوماسي هو الأرجح والأوفق والأصلح في مثل هذه القضايا، نظراً للتقاطعات العديدة التي تشهدها هذه المنطقة، وتشابك العلاقات والمصالح، خاصة بين السودان وإثيوبيا، ولهذا يتعيّن على دولتي المصب تكثيف جهودهما الدبلوماسية وتسريع وتيرة التحرّك لإقناع المجتمع الدولي بضرورة إجبار الجانب الإثيوبي على القبول بالتدخل الأممي وصولاً لاتفاق محروس بالقوانين المنظمة للعلاقات الدولية بين الشعوب وحماية مصالحها المشتركة، خاصة تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن للرئيس السيسي بتعزيز الجهود الدبلوماسية من أجل التوصل إلى اتفاق يحفظ الحقوق المائية والتنموية لجميع الأطراف.

وإن كنت أشك في أن ينجح هذا المسار في تعطيل خطوة المرحلة الثانية من ملء بحيرة السد، قياساً على بطء التحرّك الدولي، والتعامل مع القضية بروح «بيروقراطية» لا تتناسب ووتيرة العمل في السد، وتتابع مراحله، واقتراب موسم الأمطار بشكل سريع..

أما الخيار العسكري الذي يُقرأ في ثنايا بعض التصريحات الراديكالية، التي تأتي ردّاً على بعض التصريحات الإثيوبية، فلا أظن أنه سيكون الخيار المناسب والمتوقع، خاصة للسودان، كونه سيكون المتضرر الأبرز؛ إن لم يكن الأوحد من أي خطوة تستهدف السد بالتدمير، فلن تخسر إثيوبيا غير سد أنفقت عليه، فيما يخسر السودان مدناً وأراضي سيجرفها الطوفان، وستكون مصر الأقل ضرراً في هذه الحالة.

على أي حال، الأيام حبلى بالتوقعات، والوصول إلى اتفاق مرضٍ لن يتأتى إلا بتقديم جميع الأطراف تنازلات ضرورية وقد تكون مؤلمة، ولكنها هي الثمن الأوحد لاتفاق يجنّب المنطقة نزاعاً كارثياً متى ما سكت فيه صوت الحوار وانطلق فيه صوت الرصاص، لا سمح الله.