-A +A
علي بن محمد الرباعي
منذ ستين عاماً تقريباً، رافق اثنان من طلاب القُرى المتخرجين من الابتدائية، زميلاً أكبر منهم لدراسة المتوسطة في مدينة بعيدة نسبياً، وأوصى الأهل الأكبر سناً بهما خيراً، وبعد مسافة سير لنصف نهار وصلوا إلى العزبة (السكن) فبدأ الكبير بحكم أسبقيته، وخبرته بعجن طحين، وأشعل الطباخة، وتناول الصاج، وبدأ يجهّز قِرْصاناً، وكلما أنضج رغيفاً، ووضعه في الصحن، مدّ الصغيران أيديهما وأكلاه قبل أن يستوي الذي فوق الصاج، فصبر عليهما مرة، ومرتين، ثم حسم الأمر وجاء بمنشفة، وبدأ يدس الأرغفة فيها، وقال -رحمه الله- بأدب جم «اصبروا حتى أسوي لكم الإيدام»، وانطبق عليهما المثل الشعبي (أبطأ على الجائع فتّ الخبزة).

ومن قصص المنطقة الشائعة، أن أحد الآباء زوّج أصغر أبنائه من أسرة متمدنة وأهل الزوجة أثرياء، وفي أول يوم تجتمع العروس معهم على الغداء، أرادوا مدّ أيديهم في صحن الكبسة، فقالت؛ لحظة لو سمحتم، وجاءت بملعقة كبيرة وصحون، وغرفت لكل واحد، ووعدتْ بغرف المزيد لمن يخلّص صحنه، فتملكتهم الدهشة، وشرحت لهم أن هذه الطريقة تحافظ على الأكل نظيفا، ليؤكل في موعد وجبة تالية، ونجحت في تغيير ثقافة عائلة كانت تخوض بالكفوف ولا تريد أن يفسد كائن من كان عليها المُتعة.


لربما تكون نظرة بعض المواطنين للدولة، هي نظرة الطالبين الصغيرين للقرصان، أو الأسرة لصحن الأرز، بأنّ على الدولة تطرح، وعليهما التهام المطروح بِشَرَهٍ، وفقدان صبر، دون روّية ولا تساؤل (من أين؟ وكيف؟ و ماذا بَعْدُ).

وبحكم حداثة عهدنا بإفاقة مما كان يُرادُ لنا وبنا، لم يتخلّص البعض كُليّاً من أميّة الوعي، المتمثلة في الولع بالعاجل، المُصاحب بالنقد الجائر لآليات الإصلاح الوطني، كونها ستفسد المُتعة، بتصحيحها عادات خاطئة تلبسّت الفرد والمجتمع.

مؤسف أن يتحوّل البلع المألوف من البعض لإدمان، ويكبر الأسف حين نحصر مسؤولية دولتنا، في المحافظة على تخمة شرهة تتطلع للمزيد من القرصان، ولصحون الكبسة، كون صورة الوطن الناصعة لم تتحرر بصفاء في أذهان البعض، بحكم أفكار وسلوكيات، وعادات ترسّخت فينا بسياط الصحوة، وهياط الطفرة، ولا أحد يريد إفساد المُتعة.

نبدي إعجابنا بشعوب لا شبيه لها في عشق أوطانها، إلا أننا لا نتساءل عن سر عشقهم، برغم رداءة ظروفهم، وتكالب مشاق الحياة عليهم، وأكثر الشعوب عشقاً لأوطانهم تعرضوا لانتكاسات بسبب انقلابات يسارية أو يمينية، وخدعتهم الشعارات، واستخفهم دعاة الباطل للثورة على حكام مسالمين.

يظل الوطن محايداً، وصورته عاطفياً أقرب لصورة أب مُشفق ومتشوّق، وغارم وصارم في التربية، ويمارس ترغيباً وترهيباً لكي لا يخسر أحداً، وأصدق التحالفات وأقواها، تحالف الابن مع أبيه، والشعب مع قيادته، إذ في التحالف أقوى رهان لإفشال كل محاولات الاختراق المادية والمعنوية، والابن جزء من أبيه، والمواطن ركن من الوطن ملتزم بكل تحديات وصعوبات المراحل، وبكل ما يتوعّده به حاضر، ويَعِدُه به مستقبل.

تشير تقارير المؤسسات التربوية إلى أن دول الخليج العربي لم يعد فيها أميّة، الكل يقرأ ويكتب، ومن الطبيعي أن نسأل عن أثر التعليم الإيجابي على وطنيتنا، وحياتنا، وسلوكنا، كون بعض تصرفاتنا تُشكّكنا في انتهاء أميّتنا، ونحن نرى (أبا يقود سيارته وطفله في حضنه، وثانيا يلقي بقايا طعامه وشرابه على قارعة طريق، وثالثا يوقف سيارته في الشارع ويغلق الطريق أو يعطّل الحركة ليؤدي الصلاة جماعةً أو يقتضي غرضاً، إضافة لفوضوية الشارع، وشعور بعضنا بأحقية التجاوز في كل الظروف، وانتهاك حقوق المُشاة، والعبث بالممتلكات العامة، والإخلال بواجبات الوظيفة، والشخبطة على أسوار وحواجز وجدران مؤسسات بكتابات، ناهيكم عن تأجير مواطن عقله، أو إعارة وعيه لخصم أو عدو أو حاقد أو حاسد ليؤزّه على خيانة الوطن).. هذه أمثلة ليست للحصر. مؤكد أن الأخطر من أميّة الجهل بالقراءة والكتابة، أميّة إنكار فضل الوطن أو التنكر له، أو ربط الانتماء له بالمنفعة، أو خذلان المسؤول الذي يجتهد ويسعى ويحفد للرقي بوطننا بسنّ التنظيمات واعتماد الخطط والتشريعات، وإصدار الصالح من القرارات.

وأتساءل؛ أليس من الإصلاح الموازي لإصلاحات الدولة أن نتمثل وطنيتنا في المسجد والطريق والوظيفة والبيت، لنكون بالقول والعمل والفعل والسلوك مواطنين صالحين ومضرب مثل، فنحن سعوديون، وعرب، ومسلمون، وكل الهويات الثلاث، إيجابية ومكملة لشخصية الإنسان السوي، ولمحو أُميّته.

ارتبطت صورة السُلطة في مخيالنا الشعبي بآبائنا رحمهم الله، فالأسرة حكومة مصغّرة، الأب (نص النظام)، والأم روحه، والأشقاء والشقيقات والجيران والجارات كيانات مجتمع، والشخصية الاعتبارية تقول وتطول، وهي دائماً محل تقدير وإجلال من الجميع.

وسرعان ما انتقلنا بفضل موحّد مملكتنا من حالة أُسر مُعدمة، وشعوب متنافرة، وقبائل متناحرة إلى مواطنين مُكرمين، في وطن، مرّ بمراحل ترف، وسنوات تقشّف، ولم تتغير مشاعر أسلافنا في العسر عما كانت عليه حال اليُسر.

الوطنية واجب قانوني وأخلاقي وعقلي يقتضي الالتزام بواجبات عامة وخاصة، كون السعودية قيمة عليا تحتم الالتفاف حولها، وصيانتها، والاستجابة لندائها بالذهاب للمستقبل، وتوجيه طموحنا لطرق أجدى وأحرى بالرجاء، وتأمين مقدمات تسهّل تجاوز المخاطر، وتهيئ لتوفير شروط آنية آمنة تحيّد الصدمات المحتملة من مفاجآت الغد، وعسى أن نكون بمستوى تطلعات قيادتنا، ونوفي معها ولها، لأن العرب تصف الوافي بأبيض وجه، وتدعو على الخائن بـ«سوّد الله وجهه».