-A +A
فؤاد مصطفى عزب
«تغريد عبدالرحمن الهويش» شابة من عجين الورد، صحفية قديرة ومقدمة برامج في مجموعة MBC تطل علينا في نهاية كل أسبوع، كأنها صباح عيد. مع زميلها المحترف الأستاذ «علي الغفيلي البلوي». لديها فقرة تختص بالثقافة والفنون، تقوم بتقديمها وإعدادها. الفقرة علبة ألوان وملايين الريش الملونة، مجمرة بخور عود كمبودي معتق يعيث بهجة في أرجاء النفس. دائما تقطف لنا في هذا الزمان الذي يطير كل أسبوع لحظة، أحياناً تساوي عمرا. عدسة بلورية نرى من خلالها حقيقة الحياة. امرأة تجيد جعل الأحلام تفيق، كأنها بحيرة ماء الجمع، مطر جميل لا يستأذن ليحط على مظلاتنا. تحدثت هذا الأسبوع عن رواية المريض الإنجليزي (لمايكل اونداتجي) التي تحولت إلى فيلم، وأبدت إعجابها الشديد بالرواية والفيلم.

ومن يقرأ الرواية ويشاهد الفيلم لا يستغرب إطلاقا سبب إعجاب (تغريد)، فالفيلم منح من الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون السينمائية 9 جوائز.


الفيلم ملحمة رومانسية بين طيار إنكليزي (رالف فينيس) تحطمت طائرته فوق شمال أفريقيا (تونس) وزوجة إنكليزية (كريستين سكوت)، التي تقع في حب الطيار المريض، الذي تشرف على علاجه الممرضة (جولييت بنوش).

تدور الرواية/‏‏الفيلم أثناء الحرب العالمية الثانية. أروع ما في الفيلم صدقه في كل شيء: الأداء المذهل البارع، جمال الصورة، قوتها، روعة المشاعر الإنسانية، والحوار. أجمل ما يشدك في الفيلم حديث الجسد المستلقي على السرير، والمُعرض للنسيم، وهو يدير رأسه ببطء نحو الممرضة، التي تغسل جسده الفحمي مبتدئة من قدميه المحطمتين. تبلل قطعة قماش تضعها فوق كعبيه وتعصر ماءها.

تنظر إليه، وهو يغمغم مستلقيا بشكل مسطح على ظهره دون مخدة، محدقا بالأوراق المرسومة على السقف. يدير وجهه المحروق، ذا العينين الزرقاوين نحوها. ليروي بهدوء قصصاً تنزلق من مستوى إلى آخر كصقر.. يقول: (أمضيت أسابيع في الصحراء ناسياً أن أنظر إلى القمر رغم اكتماله، أحياناً كنت كرجل متزوج يغتال الأيام دون أن ينظر إلى وجه زوجته. ليس ذلك ناجماً عن اللامبالاة بل علائم الانشغال.. كنت منشغلاً بجمال الصحراء والقمر..عنها).

يستمر في الحديث حتى يتعب، وعندما يتعب تقرأ له ما يكفي لينام. تقرأ له من أي كتاب تتمكن من العثور عليه في المكتبة، التي تقع في الطابق الأرضي.. يضطرب ضوء الشمعة فوق الصفحة وفوق وجه المريض. ترفع عينيها عن الكتاب وتشاهد عينيه، تنظر إليه، يستوقفها.. ليبدأ بالحديث عبر الظلمة:

أبقاني البدو بعد أن عثروا على جسدي، صنعوا لي قارباً من العُصي، وجروني عبر الصحراء. لقد سقطت حتى الرمل نفسه اشتعل!! أبقاني البدو على قيد الحياة لسبب ما، كنت مفيداً. افترض أحدهم أنني أملك مهارة. أنا رجل يستطيع التعرف على بلدة غير مسماة من شكلها، الهيكل على الخريطة، امتلكت دائما معلومات كالبحر في داخلي.

أنا شخص إذا تُرك وحيداً في منزل أحدهم اتجه إلى المكتبة، يخرج مجلداً ويستنشقه. كنت أعرف خرائط قاع البحر التي ترصد نقاط الضعف في درع الأرض.

سرد يمتلك نخاعك الحسي بقوته ورشاقته، يدهشك، يبهرك، ويسرع في نبضات قلبك. الحوار المتبادل بين المريض وممرضته على قدر ما يجذبك عطره، على قدر ما يؤلمك وخزه. فالمريض الذي فقد ذاكرته وهويته وجلده الذي كان يغطي شرايين قلبه، وطائرته التي كان يحلق بها والزمان. يعيش بقوة أرض استراحة في الجفاف على كتفك، طوال مشاهدتك للفيلم. تستطعم منه رائحة مذاق المطر في الصحراء، وتقاوم معه الموت.. لا رغبة في الحياة بل تشوقاً لاستكمال الحكاية. الفيلم جدار عريض من القش الناعم المصنوع من الحب، العذاب، المرض، الشعر، الأرق، القلق، الليل، الناس، والحلم. موجز بسيط لحياة إنسان أحب امرأة.. بعنف، فهزت مشاعره ومشاعرنا بعنف.

يحدثنا بصوت مشروخ طوال الفيلم صادر عن مسام جلده ليقول لنا حقيقة لا نستطيع إلا الاتفاق معه عليها، وهي أن الحب كقرص الشمس يطفو دائما فوق الماء.. وأن الرجل عندما يعجز عن أن يُعيد امرأة يحبها إليه، يصبح الحزن

والعذاب والألم أقل شيء يدفعه..!!

كاتب سعودي

Fouad5azab@gmail.com