-A +A
منى المالكي
تقول إليزابيث درو في كتابها «الشعر كيف نفهمه ونتذوقه»: «إن الذوق الشخصي سيظل دائما متباينا بحسب ما للإنسان من فردية وميول شخصية، لأن لون ثقافتنا ومبلغ وعينا يدفعاننا دائما إلى اتخاذ بعض المقاييس الفنية، وطرح بعضها الآخر» يثير ذلك قضية مهمة وهي إعطاء قيمة أو حكم على الإنتاج الإبداعي، وبالتالي تتناسل الأسئلة: هل الفضاء مفتوحاً للكتابة؟ أم أن من يكتب عليه أن يلتزم بمعايير محددة؟ أو أن هناك الموت الزؤام لكل من تسول له نفسه الاقتراب من حقل الألغام هذا -أقصد به العمل الإبداعي- فمات المؤلف ثم مات النقد الأدبي وظهرت تلك الحرية اللذيذة في الكتابة والتأليف، ولكن دعونا نسأل أنفسنا هل تطور بذلك -الموت- النتاج الأدبي أم تأخر؟ هل نحتاج للنقد والناقد أم أن كليهما من أدوات السلطة المرفوضة؟

دعونا نبدأ الحكاية من بداياتها مع النقد الأدبي الذي ظهر في أول أمره تأثريا انطباعيا، يحكم الناقد فيه بجودة العمل الأدبي أو رداءته دون أن يعلل ذلك، أو يفصح عن أسبابه، وإنما يستند في حكمه على ذوقه، ويستفتي انطباعه النفسي عن العمل، وقد مثلت هذه المرحلةُ بدائيةَ النقد عند جميع الأمم. وفي هذه المرحلة -وبوحي من الإحساس بأهمية الذوق الشخصي، وعدّه المعيار الأساس في الحكم- وُجد من يشكك في جدوى الناقد المحترف، واستبعاد دوره، بل النظر إلى عمله على أنه ضرب من التدخل غير المشروع بين المؤلف والمتلقي. وقد بدا ذلك ذات مرة على شكل حوار جرى بين الناقد خلف الأحمر وبين قارئ عادي، قال الرجل لخلف: «إذا سمعت أنا الشعر أستحسنه، فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك.. يعني النقاد، وعلماء الشعر».


ثم تطور النقد الأدبي وقام على قواعد وأصول موضوعية، ظهرت على شكل تفاعل بين العمل الأدبي والمتلقي، فالناقد يتكئ على علم ومعرفة ونظريات نقدية حديثة تنبهه على ضرورة الخروج من تأثره الشعوري فقط ويحكم بموضوعية تمليها عليه معرفته العلمية، وبذلك يخرج النقد من دائرة الذاتية المغلقة إلى أفق الموضوعية، معتمداً في الحكم على عناصر داخل العمل الأدبي.

والموضوعية تحتم أن نعترف أن النقاد والناقدات يختلفون -بطبيعة الحال- في الأصول التي يعتمدون عليها في دراسة الأدب، وفي المعايير التي يحكمون بها عليه، وفي التركيز على جانب دون جانب، ولكن النقد الجيد، هو الذي يحاول الوصول إلى الإقناع الذي يحتكم إلى معيار موضوعي معين، بحسب المنهج الذي يتبناه الناقد، ويراه أقدر على درس العمل الأدبي، وتحليله، وتقويمه.

وتكمن الإشكالية التي تعيق تقدم الأدب والمبدعين في الاستفادة من منجزات النقد ونظرياته الحديثة -من وجهة نظري- هو استخدام تلك اللغة الفلسفية المعقدة التي لا تخرج من كونها طلاسم ترتبط ببعضها البعض يقدم عليها الناقد مستفيدا من ترجمات ركيكة أو أنه بنفسه لم يتمكن من النظرية للأسف! وتظهر نقطة صعبة جداً أن نتجاوزها وهو أن هذه النظريات النقدية قد ظهرت في بيئات وثقافات مختلفة عن معطياتنا الثقافية وفلسفات نشأت تحت ظلال الصناعة والذكاء الاصطناعي مثلا بينما نحن بيئات مستهلكة! والقول بأن العلم مشترك إنساني حقيقة لا يمكن تجاوزها ولكن أن تنزل هذه النظرية كما هي دون تطويعها لفكرنا وثقافتنا، تجعل نصوصنا الأدبية تردد مع المتنبي: يا أعدل الناس إلا في محاكمتي... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم!!

كاتبة سعودية

monaalmaliki@