-A +A
صدقة يحيى فاضل
في ظل التخبط الفكري، والتيه الاستراتيجي الملحوظ، والتشرذم المؤسف، الذي يعيشه معظم العرب، في الوقت الراهن، وعلى كل المستويات، بما فيها المستويان الشعبي والرسمي، وكذلك المستويان القطري والقومي، تبرز الحاجة ملحة للمراجعة النظرية والفكرية للرؤية العربية (أو العروبية) المستقبلية، كما يجب أن تكون. فقد وصلت الحيرة لدرجة إنكار وجود «أمة عربية» واحدة. وتلك قضية فكرية وسلوكية كبيرة، لا بد من التعامل معها وتحديدها والاستقرار على رأي عام تجاهها. فهي، في نهاية المطاف، قضية هوية. ومن الضروري تحديد الوجهة... تمهيداً لمستقبل إيجابي أفضل. وفي الوقت الذي يتهافت فيه الناس ويتسابقون على إحياء ما يربط فيما بينهم، لشد أزرهم، ودعم موقفهم تجاه الآخرين، نجد كثيراً من العرب يتهافتون على إحياء ما يفرق فيما بينهم...؟! بعضهم ينكر قوميته العربية، زهداً وجهلاً، وهدراً لرابط كبير يجمعهم.

من أشهر من كتبوا عن «القومية» البروفيسور البريطاني «ايلي كدوري»، العراقي الأصل، حيث عرف «القومية» بأنها: مجموعة كبيرة من الناس، تربط فيما بينهم الروابط الثمانية الشهيرة: اللغة الواحدة، الأصل العرقي، الدين الواحد، التقاليد المشتركة، التاريخ المشترك، الجغرافيا، إضافة إلى المصالح والأخطار المشتركة.


وعرفها معظم علماء السياسة والعلاقات الدولية بأنها: مجموعة كبيرة من الناس تربط فيما بينهم اللغة الواحدة (كلغة أم) وغيرها من الروابط السبع الأخرى. أي أن القومية تتواجد، إن توفر لمجموعة كبيرة معينة من البشر رابط لغة الأم المشتركة. وتزداد القومية -أي قومية – صلابة، كلما توفرت فيها ولها، بعض أو كل الروابط الأخرى. والكثير يعرفون «العربي» بأنه من كانت لغته الأم هي العربية، والألماني من كانت لغته الأم الألمانية.

****

وعندما نطبق هذه التعريفات على العرب، نجد أنهم، بالفعل، يكونون أمة واحدة (Nation). وبصرف النظر عن رأي هذا الطرف أو ذاك، تفرض الحقائق العرب كأمة متجانسة، أو شبه متجانسة. بل إنها من أكثر المجموعات البشرية التي ينطبق عليها مصطلح «أمة»، بسبب أنه يربط فيما بين غالبية مكوناتها كل الروابط والأواصر التي تربط -عادة- بين جماعات بني البشر، وأهمها الروابط الثمانية المذكورة. فبالإضافة إلى اللغة الواحدة المشتركة، فإن غالبيتهم يرتبطون ببعضهم بالروابط السبع الأخرى، أو بمعظمها.

هناك بالتأكيد أمة عربية، بكل المقاييس... تمتد حدودها من المحيط الأطلسي غربا، إلى الخليج العربي، وجبال زاجروس شرقا، ومن البحر الأبيض المتوسط وهضبة الأناضول شمالا، إلى بحر العرب، وأفريقيا السمراء جنوبا. وهي من أقدم وأعرق الأمم. هي «أمة»، وإن وجدت في عدة دول، وساء حال معظمها. ويكفي أن ألد أعدائها يعتبرونها كذلك، رغم أن بعضاً من بني جلدتها يشككون في كونها أمة واحدة، ولا يسرهم أن تكون كذلك...؟!

لا توجد الآن مجموعة كبيرة من البشر على وجه البسيطة، يربط فيما بين أفرادها كل هذه الوشائج، ويبقى هذا حالها... تفكك، وضعف، وتخلف...إلخ. ولكنها مسببات هذه المأساة (المسببان الداخلي والخارجي). إنها أمة وصل تعدادها لحوالى نصف مليار نسمة. ولها ظل داعم لا يستهان به، هو العالم الإسلامي، ظهير الأمة العربية، وصديقها الأول (نظريا، على الأقل). ولو كانت أمور معظم هذه الأمة طبيعية، وبيدها، لربما رأينا تضامنا حقيقيا فيما بين أجزائها، يرتبط بتحالف دفاعي مع مليار مسلم، في عالم اليوم، الذي لا يعترف إلا بالمتحدين الأقوياء.

****

وبما أن هناك «أمة»، فلا بد أن يكون لها -كالمعتاد- «ثوابت» معينة، أو يمكن تعيينها. وبصرف النظر عن وضع هذه الأمة الراهن، وتباين وتناقض علاقاتها البينية، وواقعها الحالي، المتدهور، أو الضعيف، فإنها تظل -كبقية الأمم، أو هكذا يجب- لها «ثوابت» (Core Objectives) يلتزم بها، خدمة للأمة، ويتطلع أبناؤها لتحقيقها، مهما حوربوا من هذا الطرف المتنفذ، أو ذاك. والمقصود بالثوابت هو: أهم المبادئ والأهداف العامة التي تتحقق عبرها المصلحة العامة العليا للأمة، بصرف النظر عن وضع الأمة، والعوائق أمام هذه الثوابت، التي هي -في نهاية الأمر- آمال وأحلام الشعوب، المتطلعة لتحقيقها، وبلوغها ذات يوم.

****

ولو حاولنا (اجتهادا) تحديد أهم هذه الثوابت، ربما يمكننا تلخيصها فيما يلي:

(1)- ضرورة التضامن الحقيقي، والسعي لاتحاد عربي قوي، يعمل لتحقيق المصالح المشتركة، ودرء الأخطار المشتركة، وخاصة أخطار الحركة الاستعمارية الصهيونية.

(2)- مناصرة القضية الفلسطينية بخاصة، لأن قيام دولة فلسطينية مستقلة يحمي الأمن القومي العربي، ويقيـه من مخاطر لا حصر لها.

(3)- التمسك بالدين الإسلامي الوسطي المعتدل، دين الغالبية العربية، ونبذ الشوائب الملصقة به، والعمل على استتباب الأمن والسلم والاستقرار والنمو في الربوع العربية، على المدى الطويل، على الأسس الصحيحة.

(4)- توثيق التعاون مع العالم الإسلامي، لأقصى حد ممكن، باعتبار أن العالم الإسلامي «ظهير» الأمة العربية.

ويتوجب ثبات جوهر كل من الثوابت. أما تفاصيل ووسائل تحققها، فقابلة للتعديل، إذا حتمت الظروف المتغيرة، ودون مساس بالكرامة، أو تنازل عن حقوق مشروعة.

****

وغالبا ما يتحمس الفرد العادي، في أي أمة، للثوابت الحقيقية لأمته. فهذا سلوك إيجابي تلقائي. وغالبا لا يوجد تعارض حقيقي بين ولاء الفرد التلقائي والطبيعي للقطر الذي ينتمي إليه، أو مسقط رأسه أولا، ثم لأمته ثانيا. وبالنسبة لبلادنا العزيزة، فإن مسألة الهوية محسومة. فهذه البلاد العظيمة هي موئل العروبة (ومهد الإسلام) وثوابتها الوطنية تكاد تتطابق مع ثوابت الأمة التي تنتمي لها. ويبدو أن الالتزام بالثوابت في حالة بقية العرب، متجانسا، وطنيا وقوميا. ومن المؤسف، وجود قلة عربية تسخر من ثوابت أمتها. بل إن غالبية هؤلاء لا تؤمن -أصلا- بوجود أمة عربية واحدة، ذات رسالة نبيلة، أو حتى إمكانية هذا الوجود. وتلك مأساة فكرية عربية كبرى.

كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com