-A +A
نجيب يماني
موضوع كتبه الأستاذ خالد السليمان عن قضيتين تم تداولهما إعلامياً تحرم المعسل والحلاقة، ذكرنا فيه بزمن مضى كان فيه الحرام هو متسيد الأحكام بناء على اجتهادات شخصية لا أصل لها في شرع الله. فقد تم رفض تعويض مدّع عن قيمة بضاعة المعسلات حسب اتفاق الطرفين بحجة أن البضاعة هي من قبيل المال المحرم، رغم أن الدخان بأنواعه لم يكن من الأعيان المعروفة في عهد التشريع، وهو بذلك يفتقر إلى النص، والنص كما عرفه العلماء هو (ما دل على معنى من غير احتمال). فإن دل اللفظ على معنى واحد من غير احتمال لغيره فهو النص فإذا ذُكر الخمر فلا ينصرف الذهن إلى غيره وكذلك الزنى لا ينصرف الذهن إلى غير الوطء الحرام.

ومن هنا لم يكن للحكم الشرعي من الأدلة المتفق عليها إلا النص أو القياس عليه، فالنص يفيد التخصيص والتعيين وهو مناط الحكم الشرعي لما يترتب على الامتثال له من الثواب وعلى المخالفة له من العقاب، فلزم بهذا تبيين الحجة لله على الناس ولا تكون الحجة لازمة إلا بالتعيين والبيان القطعي الذي لا يدخله أي احتمال، فالله لا يتعبد الخلق بالمظنون من التكاليف فشرط التكليف فهم الخطاب.


إن كلمة الخبائث في الآية (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)، والتي يحتج بها الذين يحرمون الدخان، لا يتعلق بها تحريم ولا تكليف لغموض معانيها ولاكتنافها شتى الاحتمالات. فالخبائث لفظ عام مجمل لا تستقر معانيه على حال، لأن الشيء الواحد قد يكون مستخبثاً عند البعض ويكون مستطاباً عند الآخرين. وتعليق التحليل والتحريم على لفظ مثل هذا فيه معاني استنباط الحكم الشرعي بناء على آراء الناس في لفظ الخبائث ولا يعول عليها هنا لما يكتنفها من احتمالات شتى، ولا يؤاخذ الله الناس على كلام فيه احتمال فالدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.

فالخبائث ليست نصا فلا يصح التكليف بها بل هي من ألفاظ العموم ولا يجوز العمل بها قبل البحث عن المخصص، وبإجماع الفقهاء، فكلمة الخبائث التي يُحتج بها ليست نصاً أصلاً في موضع الخلاف فلا يجوز التحريم بها.

ويقول البعض إن التحريم للدخان يأتي من باب القياس على المسكرات، فهذا تكلف واضح وتعسف ظاهره البطلان، ذلك لأن ركن القياس الأكبر هو العلة وعلة التحريم في المسكرات (الإسكار).

فهل الدخان فيه من الإسكار أصلاً ما للخمر؟ ليحرم قياساً على المسكرات فهذا أبعد وأعسر من التحريم استناداً إلى الآية المذكورة، لأنه من المعلوم لدى الناس بالضرورة أن الدخان غير مسكر حتى لو شرب المرء منه أطناناً، بل هو منبه من المنبهات مثل الشاي والقهوة.

هذا التعسف يحمل معاني تسخير الأدلة الشرعية لغير ما سيقت له من الأحكام، وهو أقرب إلى الحكم بالهوى والتشهي لا بالشرع وأحكامه، فالأصل أن كل ما حرمه الله فهو خبيث، وليس كل ما استخبثه الناس فهو حرام. فلَم تكن أذواق الناس مصدراً من مصادر التشريع، فقد عافت نفس رسول الله أكل لحم الضب ومع ذلك لم يحرمه، فتحريم الدخان اعتماداً على كلمة (الخبائث) استشهاد في غير محله، فالخبائث لفظ عام ولا يدخل الدخان في أفراده وهذا ليس مسلكا للتشريع لأن الأصل أن ما يحرمه الله هو الخبيث وليس ما يستخبثه الناس هو المحرم، والآية جاءت في صيغة الخبر والجملة الخبرية عادة لا تحمل حكما تكليفيا.

ويذهب البعض إلى التحريم بعلة الضرر لأن الدخان مضر بالصحة فهل الضرر علة شرعية للتحريم؟ وهل للضرر علة مشتركة مع ما هو منصوص عليه من المحرمات ليلحق به بالقياس؟ وقد علم الرسول عليه الصلاة والسلام ما في الخمر من الضرر الحسي والمعنوي ومع ذلك لم يحرمها حتى نزل عليه النص القطعي بتحريمها. لقد ثبت أن الدخان ضار بالصحة ولكن ثبت أيضاً أن الكوليسترول ضار بل ضرره أكبر من ضرر الدخان باعتبار أن الذين يموتون بسببه أكثر، والكوليسترول موجود في اللحوم فهل يجب تحريمها؟ بل قد ذكرت دائرة المعارف الأمريكية للعلوم والتقنية أن الدخان والقهوة والشاي كلها فصائل نباتية من جنس واحد وهي القلويات ففي الدخان يوجد النيكوتين، وفي البن والشاي يوجد الكافيين، وكلاهما له تأثير إدماني على الجهاز العصبي للإنسان، فهل يجب تحريمهما!

أما تحريم الدخان بعلة الرائحة الخبيثة قياساً على الثوم والبصل فقد جاء فيهما نص والقياس صحيح هنا ولكن الحكم فيهما ليس التحريم بل الكراهية في حضور المسجد، فيقتصر الحكم في الدخان كونه مكروها في حق من تنبعث منه رائحته، أما غير ذلك فالكراهة كراهة طبعاً لا شرعاً.

فالأصل في التحليل والتحريم مرده إلى الشارع الحكيم فما أمر به وقضى فهو الواجب وما نهى عنه وزجر فهو المحرم. والدخان بأنواعه ليس عينا محرمة حتى يحرم وتضيع حقوق المتعاملين فيه بالتجارة. وإذا اعتبرنا فرضاً أن الدخان مسألة خلافية، فيرتفع الخلاف طالما أن ولي الأمر قد نظم المسألة ووضع لها قوانين وأنظمة للتعامل بموجبها.

كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com