-A +A
عبدالله الرشيد
حين ألّف أمين الريحاني كتابه «تاريخ نجد الحديث وملحقاته»، كتب في مقدمة الكتاب إهداء خاصاً للملك عبدالعزيز، وجهه إليه قائلا: «صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز المعظم، يا طويل العمر.. منذ عهد الخليفة عمر حتى بداية عهدكم السعودي لم يسعد العرب بمن يجمع شملهم، ويوحد كلمتهم، ويعزز شؤونهم فيجعلها تحت السيادة التي فيها الخير للجميع، وهي السيادة العربية الواحدة».

يرى الريحاني أن ما فعله الملك عبدالعزيز هو أول نجاح شامل تشهده الجزيرة العربية، فقد فشل الأمويون والعباسيون ولكن نجح عبدالعزيز، «كان في بني أمية معاوية، وفي العباس المأمون، وفي الأيوبيين صلاح الدين، ثلاثة من عظام العرب بل من عظام الرجال في التاريخ العام، ولكنهم إن وصلوا إلى ذرى المجد ورفعوا أعلام العرب في أقاصي البلدان، فلم يتمكنوا من بسط سيادتهم على شبه الجزيرة كلها، ولا كان يهمهم العنصر الأكبر فيها، إلا كحطب للحروب.. ما استطاع الأمويون أن يوفقوا حتى بين القيسية واليمنية في الشام، ولا استطاع العباسيون أن يبسطوا نفوذهم حتى على عشائر الأحساء».


يقول الريحاني: «ولكن بعد ألف وثلاثمائة سنة كُتب للعرب عمر ثانٍ، بعث إليهم بعبدالعزيز ليجمع شملهم، ويوحد مقاصدهم، ويعزز جانبهم، ويؤسس ملكاً عربياً هو منهم، وهو فيهم، وهو لهم».

أمين الريحاني (ت.١٩٤٠) هو أحد كبار المفكرين العرب، من طلائع رواد النهضة العربية بداية القرن العشرين، لعب دوراً محورياً في بث روح الوحدة العربية وتضامن كلمة العرب جميعاً في ظل الظروف الراهنة التي كانت تشهدها تلك الفترة، بعد أفول الدولة العثمانية، واشتعال الحرب العالمية الأولى، وتطلع العرب لدولتهم، بعد أمد من السبات الطويل في عهد الحكم العثماني الذي أقصى العرب وأهان العربية.

في عام ١٩٢٢، عاد الريحاني من غربته في أمريكا، وقام برحلة تاريخية استثنائية، جال فيها بلاد العرب، وخاصة منها أقطار الجزيرة العربية، متصلاً بالحكام، وزعماء القبائل، والنخب والأدباء والشعراء، وعامة الناس. وفي كل مكان يحل فيه، كانت سمعته تسبقه على الفور، أديباً مرموقاً، مفكراً، ومصلحاً اجتماعياً، والجميع يلتف حوله بحفاوة. زار بلاد نجد، واليمن، والبحرين، والكويت، والعراق، إضافة إلى مصر، والمغرب الأقصى. وألف عن تلك الزيارات والتجارب الكثير من الكتب، منها كتاب «ملوك العرب»، «تاريخ نجد»، «قلب العراق، رحلات وتاريخ»، وكتاب «المغرب الأقصى»، وعدد آخر من كتبه الأدبية وأشعاره.

التقى في زياراته بيحيى حميد الدين إمام اليمن، وأحمد الجابر الصباح أمير الكويت، وسلمان آل خليفة أمير البحرين، وفيصل الأول ملك العراق، لكن لقاءه مع الملك عبدالعزيز كان مختلفاً عن تلك اللقاءات، له وقع خاص، وأثر بالغ في نفسه.

يقول الريحاني عن لقائه الأول بالملك عبدالعزيز: «ها قد قابلت أمراء العرب كلّهم، فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل. لست مجازفاً أو مبالغاً فيما أقول، فهو حقاً كبير.. كبير في مصافحته، وفي ابتسامته، وفي كلامه، وفي نظراته، وفي ضربه الأرض بعصاه. يفصح في أوّل جلسة عن فكره، ولا يخشى أحداً من الناس، بل يفشي سره، وما أشرف السرّ، سرّ رجل يعرف نفسه، ويثق بعد الله بنفسه. إن الرجل فيه أكبر من السلطان، وقد ساد قومه ولا شكّ بالمكارم لا بالألقاب. جئت ابن سعود والقلب فارغ من البغض، ومن الحبّ، كما قلت له، فلا رأي الإنكليز، ولا رأي الحجاز، ولا الثناء، ولا المطاعن أثّرت فيّ، وها قد ملأ المليك القلب، ملأه حباً في أول جلسة جلسناها. إنّي سعيد لأنّي زرت ابن سعود بعدما زرتهم كلّهم، هو حقاً مسك الختام».. هو حقاً أعظم ملوك العرب.

ومن جولاته في الجزيرة العربية يستذكر الريحاني كلمة تتكرر في أصقاع البلاد «عدل ابن سعود.. إنها كلمة تسمعها في البحر وفي البرّ، وفي طريقك إلى نجد قبل أن تصل إليها، كلمة يردّدها الركبان في كلّ مكان يحكمه سلطان نجد، من الأحساء إلى تهامة، ومن الربع الخالي إلى الجوف، وإذا كان العدل أساس الملك، فالأمن أول مظهر من مظاهر العدل».

لم يكن الريحاني وحده بين المثقفين والرواد من يدبج كتابه بإهداء خاص للملك عبدالعزيز، بل فعل مثل ذلك عدد كبير من أدباء عصره ومثقفي زمانه الذين رأوا في الملك عبدالعزيز شعلة من الأمل وضياء من النور أنهض همم العرب وجدد مجدهم.. ومن أبرز هؤلاء المثقفين الزعيم والأديب العربي شكيب أرسلان الذي كتب كتاباً بعنوان «الارتسامات اللّطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف» متحدثاً عن ذكريات رحلته لأداء فريضة الحج عام ١٩٢٩، وفي مقدمته كتب هذا الإهداء: «أتوجه إلى الملك الهُمام، الذي هو غُرة في جبين الأيّام، تذكاراً لجميل الأمن الذي مدّ على هذه البلدان سرادقه، وعرفاناً لقدر العدل الذي وطّد فيه دعائمه، وناط بالإجراء وثائقه، وابتهاجاً بالملك العربي الصميم الذي صان للعروبة حقها وللإسلام حقائقه، أدام الله تأييده، وأطلع في بروج الإقبال سعوده، وخلّد شمسه الشارقة.. وجدت فيه الملك الأشمّ الأصيل الذي تلوح سِيماءُ البطولة على وجهه، والعاهل الصنديد الأنجد الذي كأنما قد ثوّب (فُصِل) استقلالُ العرب الحقيقي على قدّه، فحمدت الله على أن عيني رأت فوق ما أذني سمعت، وتفاءلت خيراً بمستقبل هذه الأمة».

إن شهادات المثقفين والمستشرقين والمؤرخين حول الملك عبدالعزيز تكشف لنا كل يوم عن المزيد من جوانب عظمة هذه الشخصية وعبقريتها، عن ذلك الإنجاز التاريخي، والبطولة الهائلة التي تمثلت في مشروع توحيد المملكة، كما يصفها حافظ وهبة قائلاً: «إنها قصة أسطورية، تشبه قصص أبطال اليونان».

ALRrsheed@