-A +A
فؤاد مصطفى عزب
كأي رجل تجاوز الستين، أعاني من أمراض شائعة، بين من هم في مثل سني، ومن عاشوا حياة لا يمكن وصفها بالهادئة، ناهيك عن كونها غير صحية، ومثل معظم أقراني، أشكو من تصلب الشرايين وانسدادها، وأخضع غالباً للعلاج وللتدخل الجراحي أحياناً، حين يكون تسليك الشريان مستحيلاً بأدوية تميع الدم فقط، ومع الأيام لم يعد شيء في الحياة يزعجني أو يؤرقني غير الألم، مهما كان نوعه، حتى لو كان صداعاً موقتاً ناتجاً عن السهر أو الإفراط في القراءة مثلاً، ويبدو ذلك حال الناس جميعاً، باستثناء «المازوخيين» الذين يجدون في الألم لذة ومتعة، والعشاق الذين يبحثون عن اللوعة وحرقة القلب والبكاء في العتمة، لست مازوخياً ولا عاشقاً معذباً، ولا أحب الألم مهما كانت درجاته، لكنني وقد استهلكت جسدي بما يفوق طاقته أعاني من نوبات ألم تنغص على حياتي، وتجعلني أسير للمسكنات، التي أحرص على وجودها في البيت، كالخبز والتمر والقهوة والتبغ وماء الشرب، وأزعم أنني أصبحت عبقرياً في اختيار المسكن المناسب للألم، بل وأنافس العالم البروفيسور في إدارة الألم الدكتور «وليد أحمد اليافي» ولقد اكتسبت هذه المهارة المفيدة بحكم حياتي المهنية الطويلة مع الأمراض وآلامها، التي تجاوزت الأربعين عاماً في المستشفيات المختلفة، أعرف نوع المسكن المناسب للصداع، وأعرف تماماً كمية الجرعة المسكنة لآلام المغص المعوي، وأحفظ أسماء أحدث مسكنات القرحة والتهاب المفاصل وحتى وجع الأسنان، وفي بيتي خزانة صغيرة، أحرص على إبقائها ممتلئة دائماً، بعلب الأدوية المسكنة، والتي أعتبرها أحياناً أهم من الأدوية العلاجية، ولقد تبين لي أنني لست وحدي من يحترم المسكنات أكثر من العلاج، فقد أثبتت لي جائحة كورونا، أن دولاً وأمماً وحكومات تفعل ذلك، حين تعجز عن إيجاد الحلول لمشكلات الناس، وحين تجد نفسها عاجزة، عن توفير أساسيات الحياة بالإمكانيات المتاحة لها، وإذا كانت المسكنات التي أشرت إليها، قادرة على تسكين أوجاعي، ولم تقدني حتى تاريخه إلى كارثة صحية، إلا أنه يبدو أن الساسة في إيطاليا، وفرنسا، وإنجلترا، عجزت مسكناتهم عن تسكين آلام شعوبهم، بحيث تحولت تلك الشعوب إلى خبراء في الألم، وأصبح الموتى يتمددون في ممرات المستشفيات وطرقاتها كما يتمدد ثعبان في رمل، وحدث الشرخ سريعاً بين الساسة والأطباء هناك، والفرق كبير بين الاثنين، حيث يقال إن العاملين في القطاعات الصحية والفئران هم أكثر الكائنات استشعاراً للخطر، ولكن الفئران حين تشعر بالخطر، تعدو لتلقي بنفسها في البحر هرباً من السفينة الغرقة، أما العاملون في القطاعات الصحية، فإنهم يظلون يقرعون الأجراس ويصرخون بملء الفم وحتى ينقذوا السفينة من غرقها، واستمر الأطباء في تلك البلدان في قرع الأجراس، وبحت أصواتهم، ولكن الساسة، والذين كانوا يملؤون الأرصفة وصفحات الصحف بالكلام الساكت، الذي لا يقول شيئاً، أصبحوا كمن أعطي حقنة مخدرة تبلد بسببها إحساسه، فأضحى يفعل شيئاً لم يكن في المتصور أن يفعلها لو كان في حالته الطبيعية، تحولوا إلى طفل سيق عنوة إلى سبورة الامتحان ليحل مسألة حساب مستعصية، وأنهزم الأطباء بالضربة القاضية ولم ينهزموا بالنقاط كما يقولون في الرياضة، فالطبيب صادق دائماً، لا يتحدث إلا صدقاً عندما يتعلق الأمر بمريض، صدقاً أقرب ما يكون للتقوى، فقد تدرب وتعلم لكي ينقذ الإنسان من براثن المرض، خط دفاع ممنهج ورمز للصمود خالد، ومهندس للحياة، بكل ما تعني به الحياة من معنى، لا يرغب أن يكون أبداً طرفاً في عالم تغلب فيه قيم النفاق والزيف، لم يستطع هذا الطبيب أن يتصور أن هذه الأمم التي كان كل شيء فيها بزيادة، البدانة، والفن والعشق، والشعر والسهر، والضحك والمرح وناطحات السحاب، والولاعات والخمور، والسيجار، والكرفتات، والحقائب، والكافيار، أن يكون لديها نظام صحي ناقص هش فقير، يتهاوى وبهذه السرعة عند أول اختبار حقيقي، وظهر الإحباط والدموع، وليس هناك في الدنيا أغلى دمعة من دمعة «طبيب» تفيض على جدران النفس الداخلية، بعد أن أصبح ذلك الطبيب يشاهد مرضاه يموتون أمامه في عملية أشبه بالاغتيال، تركه الساسة في ظروف تعيسة، عاجزاً عن فعل أي شيء، داخل نظام صحي لا يمكن تفسيره، إلا بالتفسير الوحيد الصحيح، وهو أن النظام كان بطبيعته غير قابل للحياة والاستمرار، وأن بقاء ذلك النظام المتهالك طوال تلك السنوات، كان بفعل أدوات غرف الإنعاش، وبالمضخات وأنابيب الأكسجين، والمنشطات الكيمياوية، وإخفاء الأعراض الحقيقية وصور الأشعة وتخطيط القلب والمخ، عن أهل المريض الميت، هوى النظام بالكامل لأنه نظام لم تكن لديه نافذة يطل فيها على واقع الحياة، سقط لأنه كان يعيش طوال الوقت في بيت من المرايا، لا يرى فيها غير نفسه، وبالحجم الذي يبتغيه وفي الضوء الذي يريد، ومن يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته، ها أنا «الستيني» أجد نفسي محجوزاً في بيتي، في وضع مريح، تحت مظلة ابن سلمان، الدواء يصلني حتى باب بيتي، وطبيبتي البسمة على ثغر الحياة الدكتورة «لينا بيسار» تتصل بي دائماً للاطمئنان علي، أقارن نفسي بآخر يعيش في عراك مع الخوف، تنهش قلبه أسئلة لا تجد من يهدهدها، لا يجدي معها بكاء أو عزاء، في قارة لا مبالية، لا تحب إلا نفسها، كالقطة التي تأكل بعض أبنائها، ومن نجا منهم من مصير الأكل، عليه مواجهة مصير العيش مكابداً ألم نكران أمه له!!

* كاتب سعودي


fouad5azab@gmail.com