-A +A
خالد عباس طاشكندي
يثبت التاريخ -على مر العصور- أن الشعوب تثور حين تجوع، فكما يقول نابليون «الجيوش تمشي على بطونها»، فإننا نؤكد أيضاً أن «الشعوب تجري على بطونها»، إذ عُرفت أول ثورة في تاريخ البشرية بـ«ثورة الجياع»، والثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر التي قيل إنها من أهم الثورات في التاريخ، انبثقت من بطون الجوعى الذين نزلوا إلى الشوارع لتمتد مطالبهم المادية إلى الحقوق السياسية، وهذا ما يجري الآن في العراق ولبنان، فلا شك أن تردي الأحوال الاقتصادية بداية من «احتجاجات الماء والكهرباء» في العراق إلى «احتجاجات الواتس اب» في لبنان كانت الدافع الأساس في تأجيج موجات الاحتجاجات الشعبية العارمة التي يشهدها البلدان الشقيقان، إلا أن تفاقمها جاء بقواسم مشتركة جديدة حولت مسار الاحتجاجات التي امتدت لتأتي بمطالب سياسية هامة، أبرزها طرد النفوذ الإيراني وإبعاد الأحزاب الطائفية وإلغاء محاصصتها وإزاحة الطبقات السياسية الرازحة في السلطة منذ عقود ومكافحة الفساد بكافة أشكاله وإجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية تستهدف الاختصاصيين (التكنوقراط).

البعض وربما الكثير من المراقبين كانوا يظنون بأن وعي هذه الشعوب كان غائباً وأن هناك هوة متسعة غيبت دور النخب في إثراء الوعي العام والشارع، وهو ما سمح لإيران بالتغلغل عبر بوابة المرجعيات الطائفية لابتلاع هذه الدول، ولكن واقع الشارع اليوم أثبت حقيقة أخرى بعيدة عن تلك الآراء والانطباعات تماماً، فالمعادلة التي أمامنا تشير بوضوح إلى أن الشعوب العربية لديها وعي «كامن» ولكنها تنساق وراء الأحداث أياً كانت اتجاهاتها ويخفت صوتها ومطالبها بالاحتجاج وإحداث الإصلاحات السياسية في أوقات الطفرة والوفرة وبحسب تفاوت نسبتها في حين يرتفع مستوى وعيها ومطالبها وقت الجوع والشقاء وانتشار الفقر والبطالة، ولذلك لم تكن مطالب إحقاق الديمقراطية ومعالجة انعدام العدالة الاجتماعية والسياسية وتنامي النفوذ الإيراني وتفشي الطائفية وصراعات المرجعيات، إشكالية أساسية أو الشغل الشاغل في الشارع العربي، فجميع هذه العوامل البشعة لم تحرك الشعوب لا في العراق ولا في لبنان طيلة السنوات التي تفشت فيها هذه الظواهر، فما كان يشغل بال هذه الشعوب تفاوت ما بين تأمين مدخولات مادية مرتفعة أو سد رمق العيش كحد أدنى، سواء تحقق هذا الهدف في رحاب الديمقراطية أو وفقاً للوضع القائم، أي أن تغيير واقع ما مرتبط بالحالة المعيشية السائدة، فكلما ازداد الفقر والجوع زادت المطالب السياسية وتفاعل الشارع مع طروحات النخب ويظهر مدى إلمامه بالغث والسمين منها.


لقد أصبحت هذه العوامل الاقتصادية المتردية هي الوقود والدافع الذي فعَّل وأحيا وعي الشعوب في العراق ولبنان ضد النفوذ الإيراني وأشعل في دواخلها الاعتزاز بوطنيتها وعروبتها وكرامتها والرغبة الصادقة في التخلص من ذل التبعية للمرجعيات الدينية المسيسة لخدمة أجندات طهران ومواجهة فساد الطبقة السياسية، مساهمة في توحيد رؤية ورسالة الشارع وأهدافه من هذه الاحتجاجات، حيث مزق أبناء الشعب العراقي صور عملاء إيران وأحرقوا علمها، وردد أبناء النجف -مركز الحوزة العلمية الشيعية-، أهزوجة: «يا كاع ترابك كافوري» التي تعد من أشهر الأغاني الوطنية للجيش العراقي إبان حرب الثماني سنوات مع إيران، وفي كربلاء -المدينة المقدسة لدى شيعة العراق-، رفع الشعب العراقي لافتات «إيران سبب مآسينا»، وفي لبنان ومن بيروت إلى معاقل «حزب الله» و«حركة أمل» في النبطية وصور، كان شعار الشعب اللبناني «كلن يعني كلن نصر الله واحد منن»، وهكذا تكون رسالة الشعبين العراقي واللبناني واضحة في مرتكزاتها الساعية لاستعادة أوطانهم التي اختطفها النفوذ الإيراني بالتجييش الطائفي والتبعية ومحصلتها البائسة.

والآن.. وبما أن الوعي الجمعي لدى شعوب العراق ولبنان بمختلف أطيافها، صحا من سباته، ستجد هذه الشعوب أن مطالبها ستصطدم في نهاية المطاف أمام تحولات القوى الناعمة للنفوذ الإيراني، والمتمثلة في المرجعيات الطائفية المؤدلجة التي قوضت مطالبهم وسلبتهم حقوقهم وجعلتهم قطعانا من المريدين على مدى عقود، ومتأهبة للتحول إلى قوى خشنة ولن تتوانى عن الجنوح إلى العنف في سبيل تداول السلطة والإبقاء على نفوذها، إلا أن على الجماهير الغاضبة أن تدرك أنه لن يكون أمامها حلول لمستقبل زاهر ينشدونه إلا بتشييع الطائفية إلى مثواها الأخير أو القبوع في مربع «اللا أمل».

* كاتب سعودي

khalid_tashkndi@