إن أهم قيمة يمكن أن تكون مفتاحاً لحل مشاكل العالم هي احترام الاختلاف بل حب الاختلاف بحيث يُنظر إليه كإثراء وجمال وأساس، تجلّى ذلك في مخالفة الشيخ عبدالله بن منيع فضيلة الشيخ عبدالله المطلق في موضوع الزواج بنية الطلاق. ذكر الشيخ المطلق بأنه زواج شرعي ووصفه الشيخ المنيع أنه زواج باطل، كما أن مجمع الفقه الإسلامي رأى فيه غشاً وتدليساً علماً أن النيّة لا أثر لها في صحة العقود فهو زواج شرعي. فالاختلاف في المسألة الواحدة إنما هو رحمة للعباد وسعة، يقول ابن تيمية: والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة ولهذا صنّف رجل كتاباً سمّاه الاختلاف، فقال له الإمام أحمد سمِّه التيسير. وقال عمر بن عبدالعزيز: «ما سرّني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم لو أجمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة». وقال ابن تيمية «إنه لا ينبغي لمن نشأ على مذهب معين أن يلزم علماء المسلمين به، وإنه يجب عليكم أن تفتوا بمذهبي وإن أي مذهب خالف مذهبي كان باطلاً». ولقد عزم هارون الرشيد أن يحمل الناس على ما في موطأ مالك من الأحكام فمنعه مالك قائلاً: «إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرّقوا على الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم». ولذلك قال ابن تيمية «إن اختلاف وصول الأحاديث لأهل الاجتهاد هو أحد أبواب الاختلاف بين الأئمة». ثم حتى بعد وصول الحديث فإنه قد لا يثبت لديه على أصوله ولو ثبت فقد لا يحتوي على وجه الاستدلال وان احتواه فقد يكون مُعارضاً بمثله أو بما هو أقوى منه. فالخِلاف بين أهل العلم بل بين الصحابة قائم منذ عهدهم، كما أن المفتي إذا أفتى في المسألة فإنه لا يلزم الأخذ بها، وإنما يأخذ بها من شاء أو يأخذ بغيرها إن كان ذلك أيسر له، والإمام أحمد كان يفتي في المسألة ثم يدل السائل على من يفتيه بخلافها، بل إن أقوال الصحابة إذا اختلفت لم يكن قول أحدهم حُجّة على الآخر ولا على غيره وقد كان الناس في عهد الصحابة يأخذون ويتركون ما شاؤوا من فتاوى الصحابة، وكل هذا من باب اليسر ورفع الحرج عن الناس.
وتظهر رحمة الاختلاف في طواف الإفاضة، فقد أجاز أبو حنيفة للمرأة أن تستسفر وتطوف. لقد تحلّل الفقه من القيود النظرية والمكانية وتحول إلى مناهج تأثرت بالأقاليم التي انتشرت فيها المذاهب شأن كل كائن حي يخضع لعوامل الزمان والمكان، فالإمام الشافعي له القديم والجديد في مذهبه، والمذهب المالكي فهناك طريقة للعراقيين وأخرى للمغاربة .. وقد غلب على فقهاء العراق الاجتهاد بالقياس وعلى فقهاء الحجاز تغليب المصلحة. وقد سُئل أبو حنيفة عن ما استنبطه من فقه: «أهذا هو الحق الذي لا شك فيه؟» .. فيجيب «لا أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه».
إن الخلاف يقع مع وجود النص، ففي آية الوضوء: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) فهذا نص ومع ذلك فهو موضع خلاف فقد ذهب الجمهور إلى أن فرض الرجلين في الوضوء الغسل دون المسح، وذهب ابن عباس وأنس إلى أن فرض الرجلين المسح دون الغسل. وسبب الاختلاف هو القراءة بين النصب والجر وكلتاهما متواترة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة» ومع ذلك ذهب الشافعي وأحمد إلى أن الخليطين إذا كانا من أهل الزكاة يزكيان زكاة رجل واحد. بينما ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن الزكاة لا تجب في الخلطة إلا إذا كانت واجبة قبلها، وفي قوله تعالى «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء»، ذهبت عائشة وابن عمر إلى أن المراد بالقرء الإطهار، وذهب أبو بكر وعمر وعلي وعثمان إلى أن المُراد بالقرء الحيض، وبناء عليه اختلفت أزمنة العدة ولكل مطلقة الحق في أن تأخذ بما تشاء من هذه الأقوال. واختلف الفقهاء في الايلاء وفيه نص صريح، وفي نكاح المحرم بالحج والعمرة، وفي أقل ما يصح به مهراً في النكاح، وفي التيمم، وفي استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة، وفي ركنية الفاتحة في الصلاة وفي طواف الحائض وزكاة حلي المرأة وسفر المرأة بمحرم ونكاحها بولي والصلاة في المسجد، فالشيخ ابن باز يوجب الزكاة في حلي المرأة ويخالفه الشيخ ابن منيع والشيخ البسام. وهناك من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرأها ومنهم من يقنت في صلاة الفجر ومنهم من لا يفعل ومن الفقهاء من يرى في مس المرأة نقضاً للوضوء ومنهم من يرى أنه لا ينقض.
فالاختلاف رحمة. وليس أدل على عظمة العلماء وسمو أخلاقهم من أن أبا حنيفة وأصحابه كانوا يصلون خلف أئمة المالكية ولو لم يلتزموا بقراءة البسملة لا سراً ولا جهراً. وقد صلّى الشافعي الصبح قريباً من مقبرة أبي حنيفة فلم يقنت والقنوت عنده سُنّة مؤكدة فقِيل له في ذلك فقال: «أخالفه وأنا في حضرته». هذا ما نبغي لمجتمعنا الذي أخرج العلم والعلماء فنعيد سيرته الأولى تحت لائحة «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون» والمحصلة النهائية مسلمون بقلب واحد وقبلة واحدة لا يختلفون إلا تأكيداً للرحمة واتساقاً مع نواظر الاجتهاد الهادف لخير الإنسانية وسعادتها.
nyamanie@hotmail.com
إنما اختلاف العلماء رحمة
16 أبريل 2007 - 18:51
|
آخر تحديث 16 أبريل 2007 - 18:51
تابع قناة عكاظ على الواتساب