قبل نحو ثلاثة أعوام ونيف نشرت وسيلة إعلامية تقريرا خبريا عن حالة مرضية لطفل من مدينة سكاكا في المنطقة الشمالية تسببت في تعثره في المدرسة لدرجة أنه ظل قابعا في الصف الأول دون تقدم حتى بلغ سن الحادية عشرة. هذا الأمر دفع أسرته إلى البحث المضني عن أسباب ضعف تحصيله الدراسي، وعدم قدرته على مجاراة زملائه ليتم تشخيص حالته في أحد مستشفيات العاصمة الرياض، بعد رحلة طويلة من البحث والتقصي والمعاناة، بأنه مصاب بمرض «اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه» «افتا»، وهو المرض المعروف عالميا بـ(ADHD).. والمصنف ضمن فئات صعوبات التعلم المتعلقة بمشكلات جينية ووراثية تتسبب في تشتت الذهن بشكل سريع. وعادة ما يتصف المصابون بهذا الداء بأنهم شديدو الذكاء، ولذلك يلقب الكثير من الأطباء والمختصين الأطفال المصابين بهذه الحالة المرضية بـ(أقران آينشتاين) والتسمية ليست فقط منسوبة إلى أشهر المصابين بهذا الداء، وهو العالم الفيزيائي الفذ ألبرت آينشتاين صاحب النظرية النسبية، والفائز بجائزة نوبل عام 1921م، بل أيضا لأن متوسط نسبة تقييم اختبارات الذكاء مثل (IQ) ومقياس «وكسلر» و«ستانفورد بينيه» للمصابين بفرط الحركة وتشتت الذهن تقترب نتائجها من درجة الذكاء التي حصل عليها آينشتاين.
صعوبات التعلم مصطلح عام لعدد من التصنيفات المرضية المتعلقة والمتدرجة إما بخلل بسيط في أداء المخ لوظائفه، أو بإعاقات سمعية، أو بصرية، أو ذهنية، وما شابه ذلك، وتكون ناتجة بشكل كبير، بنسبة 92%، عن أمراض جينية ووراثية تتسبب بشكل متفاوت في عدم قدرة الأطفال المصابين على التحصيل الدراسي بشكل متكافئ مع الآخرين، وهو ما يجعلهم من الفئات التي تندرج ضمن ذوي الاحتياجات الخاصة.
ويصف بعض المختصين فرط الحركة وتشتت الانتباه بأنه عبارة عن حالة نفسية تبدأ في مرحلة الطفولة وتتسم بتصرفات تجعل الطفل غير قادر على اتباع الأوامر أو السيطرة على تصرفاته. كما يجد الطفل صعوبة بالغة في الانتباه ويبقى في حالة انشغال دائم. والمصابون بهذه الحالة يواجهون صعوبة في الاندماج في صفوف المدارس ما يؤدي إلى تدهور الأداء المدرسي بسبب عدم قدرتهم على التركيز وليس لأنهم غير أذكياء، أو أغبياء كما يصفهم بعض أولياء الأمور الجاهلين بطبيعة المرض. ولذلك يعتقد الكثيرون، بشكل خاطئ تماما، أن هؤلاء الأطفال مجرد مشاغبين بطبيعتهم وأنهم أقل ذكاء من غيرهم، خاصة في ظل ضعف الوعي المجتمعي بحقيقة هذا المرض من ناحية وصعوبة التشخيص من ناحية أخرى، حيث يتطلب التشخيص فحصا طبيا إكلينيكيا من قبل استشاريين متخصصين في الجينات الوراثية وأمراض المخ والأعصاب وليس بواسطة أطباء نفسيين بحسب ما أشارت إليه العديد من التقارير الدولية في هذا الشأن.
المعلومات الصادرة عن جمعية دعم اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه في السعودية (افتا) تشير إلى أن هذا الاضطراب يصيب نحو 15% من أطفال المملكة، وعلى الرغم من وجود هذا العدد الكبير من الأطفال الذين هم في حاجة للتشخيص والعلاج إلا إن الخدمة التشخيصية العلاجية عالية الجودة نادرة، وبحسب التقارير فإن ما بين 1.6 إلى 2.5 مليون طفل مصابون بفرط الحركة وتشتت الذهن، لذلك حذرت دراسات مسحية حديثة وآراء متخصصين من تنامي ارتفاع نسبة الإصابة بين الأطفال، مؤكدين أنها مرتفعة قياسا بالمعدلات العالمية، وعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة لا تتجاوز نسبة معدلات الإصابة 10%، بينما نسبة المصابين في المملكة بلغت 15%. وفي السياق نفسه أشارت دراسة أخرى نشرت نتائجها في العام 2011 إلى أن نسبة العاجزين عن إكمال المرحلة الثانوية بلغت 30%.
وأوضحت دراسة ثالثة أجريت مؤخرا في هذا الشأن أن المنطقة الشرقية تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد الحالات المصابة بحالات فرط الحركة وتشتت الانتباه، بينما تأتي جدة في المرتبة الثانية، تليها الدمام وجازان والرياض على مستوى المناطق الرئيسية الكبرى في السعودية. وبحسب المعلومات المتوافرة فإن عدم احتواء هذه الفئة أدى بهم إلى مشاكلات قانونية مقارنة مع أقرانهم الطبيعيين، حيث سجل العام الماضي زيادة في نسبة الموقوفين المصابين، كما زادت نسبة جرائمهم في العام الماضي بنسبة 21% مقارنة مع أقرانهم الطبيعيين.
60 طبيبا فقط
في مقابل الإحصائيات الضخمة للمصابين بـ(ADHD) لا يوجد سوى (60) طبيبا متخصصا للتعامل مع هذه الحالات، وذلك بحسب دراسة عملية نشرت مؤخرا وطرحت نتائجها على موقع جمعية دعم اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه السعودية (أفتا) وهو ما يعزز صحة هذه المعلومات. وحجم المشكلة التي نواجهها اليوم يتمثل في أن ما لا يقل عن 20% أي نحو خمس طلاب المدارس الابتدائية العادية في حاجة إلى خدمات متعلقة بالتربية الخاصة وصعوبات التعلم، بحسب ما أشارت إليه وزارة التربية والتعليم ضمن استراتيجياتها للتربية الخاصة، حيث توفر الوزارة قرابة 90 مدرسة «حكومية وخاصة» بها فصول دراسية مخصصة للتعليم الخاص، وهو مسمى عام تندرج تحته 8 تصنيفات تحتاج إلى مختصين لتدريس الطلاب حسب الحالة، وهي (فئة ضعاف السمع، ضعاف البصر، متعددي العوق، المضطربين سلوكيا وانفعاليا، التوحديين، المضطربين تواصليا، المعوقين جسميا وحركيا وفئة ذوي صعوبات التعلم)، وتوجد أغلب هذه المراكز والمدارس في منطقة الرياض، مكة المكرمة، والمنطقة الشرقية.
جهل المعلمين بالتشخيص
(عكاظ) أجرت استطلاعات رأي ميدانية بمشاركة أولياء أمور وآباء لأطفال مصابين بفرط الحركة وتشتت الانتباه وأشارت اتجاهات الرأي إلى أنه برغم الأعداد الكبيرة للمصابين بإشكاليات عضوية ونفسية متعلقة بصعوبات التعلم إلا أن غالبية المعلمين في التربية والتعليم ليس لديهم أي خلفية حول تشخيص أصناف صعوبات التعلم، والتفرقة بين التأخر الدراسي، وبين الإهمال وصعوبة التعلم، بالإضافة إلى عدم وجود منهجية واضحة لاحتضان بعض فئات صعوبات التعلم، مثل المصابين بعسر القراءة (الديسليكسيا)، وأمراض فرط الحركة، وتشتت التركيز (ADD/ADHD) على وجه الخصوص، وإعطائهم حقوقهم الأساسية في التعليم، والرعاية الصحية والاجتماعية بشكل يساهم في تنمية قدراتهم، ودمجهم مع المجتمع بشكل طبيعي وذلك بحسب العديد من التقارير واستطلاعات رأي شملت ذوي الأطفال المصابين. وأوضح الدكتور إبراهيم العثمان من قسم التربية الخاصة في جامعة الملك سعود في تصريحات سابقة أن المشكلة تكمن بأن نوعية الخدمات، وأدوات التشخيص المقننة غير مطبقة في البيئة التربوية، وإنما تقوم على جهود فردية من خلال ما يقوم به العاملون غير المتخصصين في الميدان التربوي، وسبق لوزارة التربية والتعليم أن قررت فتح برامج تعنى بهم انطلاقا من العام الدراسي 1430هـ.
مصاعب كبيرة
في وقت سابق ذكرت مديرة عام التربية الخاصة في وزارة التربية والتعليم عضو النظام الوطني للمعاقين الدكتورة فوزية محمد أخضر أن هذه الفئات بحاجة إلى خدمات خاصة مفتقدة، وتختلف عن فئات أخرى مثل ذوي الإعاقة البصرية، والسمعية، والذهنية التي تقدم لها الخدمات. وتشير العديد من الدراسات واستطلاعات الرأي إلى أن الواقع الحقيقي الذي نعيشه حتى اليوم هو استمرارية المعاناة في طرق تشخيص أعراض صعوبات التعلم، وعدم توفير العلاج والتعليم الكافي. لذلك من الواضح أن معاناة الأسرة التي يصاب أحد أبنائها بفئات من صعوبات التعلم كبيرة، بسبب ضعف التشخيص، وصعوبة البحث عن مدرسة متخصصة تحقق المطلوب منها، واحتمالية احتياج الحالة الانتقال إلى مدن أخرى وربما الانتقال إلى خارج المملكة.
مصابون ولكن مشاهير
بلغت نسبة المصابين بشتات الانتباه (ADD) أو فرط الحركة وشتات الانتباه (ADHD) على المستوى العالمي ما بين 3% إلى 5%، ونظرا لتميز الغرب في النظر الى هؤلاء بأنهم ليسوا من ذوي الاحتياجات الخاصة واعتبارهم من ذوي «القدرات الخاصة» فقد خصصت تلك الدول مشاريع ومراكز وبرامج خصصت لتطوير قدرات المصابين، ودمجهم بشكل سلس مع المجتمع، ولا عجب إن كان الراحل «ستيف جوبز» - أحد الذين بهرونا بمنجزاتهم في مجال التقنية المعلوماتية - مصابا في صغره بمشكلات فرط الحركة، وتشتت الانتباه وعسر القراءة في آن واحد، ولا عجب أيضا إن علمنا بأن «جراهام بيل» مخترع الهاتف و«توماس أديسون» مخترع الإضاءة و«والت ديزني» والسير «ريتشارد برانسون» عانوا في صغرهم من فرط الحركة وتشتت الانتباه.
مرض شبه وراثي والتباطؤ في العلاج يعقد الحالة
الدكتورة سعاد يماني استشارية المخ والأعصاب رئيسة مجموعة دعم اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه في مستشفى الملك فيصل التخصص تشير إلى خطورة نسبة المرض في المملكة، وأكدت أن الإحصائيات تشير إلى أن أكثر من مليون و600 ألف طفل يعانون من فرط الحركة. وقالت في تصريحات لـ«عكاظ» إن الأبحاث العالمية من مناطق مختلفة في العالم كانت نتائجها أن أهم أسباب الإصابة بفرط الحركة وتشتت الانتباه هي أسباب وراثية، بنسبة تصل إلى 92% من إجمالي الحالات التي أجريت عليها الدراسات، وهناك أسباب أخرى منها الإصابة بالالتهابات أو الجلطات التي تحدث للأم أو الجنين أثناء الحمل، أو تناول الأم بعض المواد الضارة أو التدخين أثناء فترة الحمل. ودعت الدكتورة يماني أن يتم التشخيص بواسطة مختص قادر على العلاج كطبيب الأعصاب أو النفسية أو اضطرابات النمو، وأثبت العلاج الطبي نجاحه في علاج 80-90% من الحالات المصابة، وأشارت إلى أنه في حالة استخدام العلاج الطبي فلابد على أفراد الأسرة والمدرسة من التعاون وملاحظة الطفل من ناحية الاستجابة أو الأعراض الجانبية.. وأضافت يماني بأنه توجد قلة في الاهتمام الكافي بعلاج هذه الحالات مبكرا وهو ما يصعب من إيجاد العلاج المناسب.
والدة مصاب بفرط الحركة: صنعت من معاناته مهندسا عبقريا
والدة مصاب بفرط الحركة روت تجربتها الناجحة في تأهيل ابنها على مدى 20 عاما حيث أصيب وهو في التاسعة من العمر وتم تشخيص الحالة بواسطة طبيب أمريكي استشاري في المخ والأعصاب بأحد مستشفيات الرياض. ولم تجد السيدة حينها أي مدرسة متخصصة بإمكانها متابعة حالة ابنها بالشكل المأمول فاضطرت لمخاطبة عدة مدارس في أوروبا والولايات المتحدة والأردن ولبنان وأرفقت صورة من التشخيص الطبي مع طلبها لكن 90 % من المدارس العالمية طلبت مقابلة شخصية فاضطرت السفر إلى عدة دول متحملة وحدها وعثاء السفر بسبب انشغال الأب في العمل وتحملت كافة التكاليف الباهظة في مهمة البحث عن مدرسة وضاعت سنتين من عمر الابن بحثا عن مدرسة مناسبة تحتضنه.
تضيف الأم التي طلبت عدم الكشف عن اسمها حتى لا تسبب الحرج لابنها المهندس، أن كثيرا من المدارس العالمية المتخصصة رفضت ابنها بسبب عدم إقامة الأسرة في نفس البلد، حتى تيسر الأمر عندما قبلته إحدى المدارس الأجنبية والمتخصصة في هذا النوع من صعوبات التعلم في لبنان وأكمل فيها الدراسة حتى أنهى الثانوية العامة. وأضافت الأم: إن المعاناة لا توصف خاصة مع الظروف التي مرت بها لبنان في حرب 2006م.
وأكملت قائلة: لا يهمني أنا ووالده كم صرفنا من أموال فنحن سعداء -ولله الحمد- أن ابننا أكمل تعليمه الثانوي وتعلم اللغة الإنجليزية واكتسب مهارات مميزة في التعامل مع تقنيات الحاسب الآلي وهو الآن في السنة الأخيرة في كلية الهندسة تخصص إلكترونيات في إحدى أقوى الجامعات الأمريكية وأصبح إنسانا طبيعيا ومنتجا وسيعود ليخدم وطنه في مجال تخصصه. وقدمت الأم نصيحتها لأولياء الأمور بضرورة التوصل للتشخيص الطبي ومن ثم البدء في البحث عن مدرسة ملائمة تستطيع التعامل مع قدرات الطفل.