طموحات وأمان لا حدود لها، و أزمات ترحل عاما بعد عام، و أزمات تبقى و معها يعيشون.
«ربما يا ولدي نبني بيتنا بعد سنتين ؟
و لكن يا أبي قلت هذا الكلام من سنتين !»
حلم يمتلئ بوهم، و الحلم عندهم امتداد لتعايش طويل و بلا حدود، فالبيت الذي سيبني بعد سنتين ، سيبنى في حلم (الشايب) فقط ، فلا أرضا اشترى و لا قيمتها امتلك .
أمل يتعزى به لأمل يمتلئ عشبا في القادم من الأيام .
فالسنوات الستون أو السبعون الماضية لم تكن سوى سنوات جدب أنهكت الجسم و أطاحت بكل ذاك التعب .
قال :
لو أنني تداركت أمري من قبل لأقبلت على التعليم، و تخلصت من كل هذا الضنك .
لو أتيحت لي من الفرص مثل ما يتاح الآن للشباب لما وجدتني أقبع في هذا المكان و بهذا الحال.
تمر أوقات علي تغيّب النوم من عيني ، أطفالي نيام لكنني أظل مسهدا أبحث عن منام و لا منام.
هل سمعت عن عناء أقسى من نوم لا يأتي؟
و لماذا ؟
لأن المعيشة لا تحتمل وضعا كحالي، و لأن مسؤوليات هذه المعيشة أكبر مما أحتمل .
و ألمسألة يا بني ليست بيتا أو حتى سيارة المسألة تتصل حتى بمستلزمات الأبناء ، و أشياء أخرى.

عجز لا يسده عجز
العم محمد صالح البيشي – 66 عاما رمقني قائلا :
من أين تريد أن أبدأ ؟
من عمري الذي أوشك على النهاية ؟
أم من بقائي كل هذه السنوات - 20 عاما - حارس مدرسة لا يمكنه مرتبه المتواضع حتى من الاقتراض دينا من الآخرين.
صدقني ، كثيرا ما يقدم بعض ممن أعتبرهم زملاء الشقاء، كثيرا ما يقدمون لي شيئا من «شقاهم» كي أستعين به لريثما يأتي مرتب الشهر فأرفض.. كيف آخذ منهم ما لا أستطيع رده لهم حتى لو أمضيت عاما كاملا! كيف و مرتب هذه المهنة نستلمه في نهاية الشهر وهو عاجز أصلا عن توفير كل احتياجاتنا! فهل تريد مني أن أسدد العجز بعجز مثله ؟
أسكن لغاية الآن في البيت الذي وفر لي من قبل التعليم رغم أن أسرتي و لله الحمد تصل إلى سبعة من الأبناء بالإضافة لوالدتي المعمرة التي صارت تحتاج إلى من يرعاها و يوفر الهدوء لها، وذلك ما لايمكن تحقيقه في بيت هو عبارة عن غرفتين لكن الحمد الله .
أفكر في الانسحاب من هذه المهنة، و أكتفي بما رزقني به الله لكن أنسحب إلى أين؟ فالبيت سوف يتم سحبه حالما أترك العمل فأين أذهب؟ كنت أحاول أن أشتري منذ سنوات طويلة ماضية قطعة أرض في أي مكان رخيص، ثم أحاول أن أبني فيها «بيت شعبي» وبحدود ما أستطيع لكن حتى هذه الأمنية لم أتمكن من تحقيقها .

مواساتي بالبراءة
وتحكي معالم العم علي عائض الغامدي - 50 عاما - تفاصيل قناعته الرائعة، ورضاه بالوضع الذي يعيش، حيث قال بابتسامته الطيبة :
ليس في نفسي أي قلق و مازلت أحمد الله على كل شيء ، فما كتبه الله تعالى لي من رزق كفاني، و ما لم يكتبه لا أتعب نفسي في السعي وراءه .
في ذمتي قرض يستقطع من أجله شهريا 400 ريال، و هذا الاستقطاع يكون على حساب قيمة الايجار و سداد فواتير الكهرباء.. أؤجل هذه لسداد تلك، و أقدم هذه شهرا و أؤخر الثانية ، وهكذا تسير أمور حياتي و حياة أسرتي، متى أنتهي من كل هذا لا أحاول التفكير لأن التفكير في هذا الموضوع صعب .
أما البيت فلا تطلب مني التكلم فيه، أريد «بيت شعبي» في (الحرازات) مثلا لرخص الأراضي فيها.
قاطعه أحد الحضور قائلا:
يا عم علي «خبرك قديم»، لم تعد الأراضي في الحرازات رخيصة كما تقول، بل ارتفع سعرها هناك و لا أمل أن يشتري فيها من هم في حالك.
تجمهر طلاب المدرسة التي يحرسها العم علي حوله، في صورة حميمية جميلة و هذا ما جعله يقول :
كل هؤلاء الأولاد هم أبنائي، أحبهم مثلما أحب أطفالي، و هم لا غيرهم من يواسيني و يجعلني أستمر في هذه المهنة لغاية الآن.. أخاف عليهم و أظل متيقظا من أجل ألا يصاب أحدهم بمكروه، أتابعهم عند الانصراف حتى يغادر كل واحد منهم بسلام، أحب العمل حارسا لهذه المدرسة.
تجمهُر أولئك الطلاب حال بيني وبين مواصلة الحديث مع العم علي الذي خشي على أولئك الصبية من بقائهم في ذلك الوضع الذي ربما عرضهم لأخطار الطريق فاعتذر و غادر مستحثا أولئك الأطفال على العودة إلى داخل المدرسة .

من يساعدني؟
وكان محمد عبده الجهني - 42 عاما - منهمكا في الاستماع لطلبات مسؤولة في مدرسة البنات التي يعمل بها.. كان يبدو عليه شيء من التذمر حينما خرج من باب المدرسة وسأل بمزيد من القلق :
ماذا تريد أنت الآخر ؟
استمع الي بانتباه و حينما فرغت قال متنفسا:
أين أنتم من زمان؟!
كنت أنتظركم، لقد عملت في الكثير من الشركات و المؤسسات بحثا عن الرزق الذي يغطي لي ما تحتاجه أسرتي. لم أعثر على العمل الذي توفر لي أجرته على الأقل نصف تلك الاحتياجات، و لهذا وجدت فرصة العمل كحارس في هذه المدرسة مقابل 2500 ريال هو أفضل ما استطعت الحصول عليه، وإن بقيت كل الظروف المعيشية كما هي، فأنا أسكن بالإيجار مثلي مثل بقية أغلب الناس، والإيجار يأخذ النصف و الباقي يذهب أيضا لحقوق أخرى..
فوالدتي التي تعيش وضعا صحيا صعبا، لا أستطيع القيام بعلاجها و التخفيف من آلامها لأنه لا يتبقى ما أدفع به قيمة الكشف أو العلاجات. فهي لا تستطيع أن تمشي نتيجة لآلام العظام.. في المستشفيات الحكومية التي عرضتها عليهم لم يذكروا لي سبب مرضها، تارة يقولون روماتيزم و تارة يقولون هشاشة عظام و تارة يقولون آلام طارئة. تعبت عندما وجدت المسألة تتطلب عرضها على المستشفيات الخاصة نتيجة لأنني لا أستطيع تحمل مصاريف «الخاصة»، صدقني لا يبقى من المرتب شيء في اليوم الثالث من الشهر و السبب أنني و قبل استلام المرتب أكون قد حددت أين يذهب كل ريال فيه، فهذا لشراء شيء من مطالب البيت وذاك للبقال و هذا للإيجار و الباقي للكهرباء و هكذا «يطير» بسرعة و قبلما يستقر ولو بعض الوقت في جيبي .
تصدق.. اشتريت أرضا استدنت بعض قيمتها و ما تبقى ساعدني فيه صاحب الارض!.
هذه الأرض مضت عليها سنوات طويلة، لم أستطع أن أضع فيها «طوبة» واحدة و في كل ليلة يعترضني في منامي شخص يبتسم لي ثم يعمل على بناء البيت لي في تلك الأرض.. استيقظ فرحا و كأن الأمر حقيقة لكنني لا ألبث أن أعرف الحقيقة فأتعوذ من الشيطان. إلا أنني أقول في نفسي دائما ربما سأتمكن من بناء ولو غرفتين في تلك الأرض لأرحل و بسرعة إليها هروبا من الايجار.. كم أتمنى ذلك و لعل هناك من يتمكن من مساعدتي .

أنقذني جاري
ولا تختلف هموم سعد هزان العمري - 46 عاما - عن الآخرين كثيرا إلا أن العم سعد مازال يتهرب من عامل ورشة الميكانيكا و يتحاشى المرور من نفس الطريق الذي تقع عليه تلك الورشة..حيث قال:
تعطلت السيارة الوحيدة التي أنقل عليها أطفالي للمدرسة و أنتقل بها و أحيانا أعمل عليها، و لم أستطع سحبها من الموقع الذي تعطلت فيه لكن عامل ورشة الميكانيكا كان كريما معي حيث تولى سحبها على حسابه و أحضرها للورشة بل وقام بشراء قطع الغيار لها ، رغم تكلفتها العالية بالنسبة لي .
المشكلة أنني لا أملك حاليا قيمة إصلاحها، و المبالغ التي دفعها العامل في سحب السيارة و صرت بين نارين، فالعامل بلا شك يريد حقه قبل خروج السيارة من ورشته و لا أمل أمامي بإخراجها إلا مع نهاية الشهر و حتى مع كل هذا الانتظار لا أستطيع دفع كل تلك التكاليف التي تتجاوز المرتب .
صرت في ورطة مع الأبناء حيث اضطررت إلى تغييبهم عن المدرسة في أول يوم تعطلت فيه السيارة وكنت لا أدري كيف أتصرف من الغد لكن من فضل الله أنني رزقت بجار لن أستطيع أن أوفيه حقه من الثناء .
فقد علم جاري هذا بموضوعي، و كان يعلم أنه لو حاول أن يعطيني قيمة إصلاح السيارة لرفضت أن آخذ منه قرشا واحدا نتيجة لكثرة الديون .
لهذا ذهب إلى عامل الورشة ودفع له كامل حقه، و أخذ منه مفتاح السيارة وظل يبحث عني ولم يعثر علي بسبب أنني كنت لا أصلي في نفس المسجد الذي يقع في طريق الورشة..
لم أكن أعلم رغم أن جاري هذا هو من تولى نقل أبنائي طيلة الأيام التي كانت السيارة فيها معطلة، المهم.. هذا الجار الطيب أعطى أبنائي المفتاح وطلب منهم إبلاغي بأن أذهب للورشة لأخذ السيارة.
عندما علمت ذهبت إليه فقال لي قبل أن أتكلم بأية كلمة :
«القروش» لا تفكر فيها و الله لن تعيد لي قرشا واحدا، فلا تحمل همها أبدا.. فماذا أقول عن موقف جار هذا تعامله و هذه جيرته.

لا أريد التقاعد
ولا يتردد العم معتق الصبحي - 56 عاما - عن القول:
لقد مضى علي ما يقارب الثلاثة عشر عاما و انا أعمل في حراسة هذه المدرسة والحقيقة أنني مرتاح فيها غاية الارتياح بسبب أن الله رزقني بأناس يعملون في هذه المدرسة هم من خيرة الناس الذين صادفتهم في حياتي.
فمدرسو المدرسة و مديرها بصراحة رجال تعرفهم في أوقات الشدة.
يعلم الله لم يسمعوا بضائقة تصيبني إلا وأجدهم بجواري، يقفون معي بأنفسهم قبل «حلالهم»، ولهذا لم أفكر قط في الانتقال من هذه المدرسة رغم أنني أسكن في مكان بعيد عنها جدا لكنني و الله لا أريد التفريط بهؤلاء ولعل هذا ما جعلني لا أشعر بأي ضيم أو تعب و مستعد لخدمتهم في أي وقت فأولادي مثلا كم من مرة ومازالوا يلحون علي بالتقاعد و ترك العمل فهم و لله الحمد في خير لكن ما منعني إلا أنني وجدت نفسي بين هؤلاء المعلمين وهذه المدرسة وهم لا يفعلون هذا معي فقط بل هذه أفعالهم مع الجميع، لدينا هنا معلم وصلت خبرته إلى أكثر من تسعة وعشرين عاما، أعرف أنا و يعرف الجميع أن أحد أسباب عدم تقاعده هو ارتياحه في هذا المكان.