الآن وقد أثبتت الأزمة المالية العالمية أن العالم جسد واحد متصل الأجزاء ، حيث انتقلت الأزمة من مكان لمكان بسرعة كبيرة ، فثمة تساؤل فرض نفسه الآن وهو هل ستشهد الأزمة نهاية نظام الرأسمالية والعولمة أم ستكون هذه الأزمة بمثابة حركة تصحيح لمسار العولمة ؟
وبعيدا عن التحيزات الأيديولوجية برز رأيان في هذه المسألة الأول يبشر بسقوط نظام العولمة وانهيار الرأسمالية ، والرأي الثاني يرى أن الأزمة ستصحح مسار النظام الرأسمالي وتتلاشى عيوب العولمة، وأن الحديث عن أزمة هو التعبير الدارج عما هو بالدورات الاقتصادية في النظام الرأسمالي حيث يتعرض الاقتصاد الرأسمالي لحدوث دورات اقتصادية، وتسمى دورات كندارتيف نسبة إلى العالم كندارتيف ، وهناك انواع من الدورات الاقتصادية، تتراوح أعراضها ما بين الكساد الاقتصادي، والركود ، ومن أصحاب هذا الرأي دي ان جوليوس رئيسة المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن التي رفضت توصيف مايحدث الآن في أسواق المال بأنه نهاية الرأسمالية كما يحلو للبعض ان يروج وانما اعتبرت أن الانهيارات المالية الحالية هي بمثابة تصويب لها.
وبدون الانتصار لأحد الرأيين فيمكن القول إن الأزمة المالية العالمية أظهرت عيوبا قاتلة للعولمة والنظام الرأسمالي ، وأن العالم بعد هذه الأزمة لن يكون هو عالم ماقبلها . ويمكن الاستفادة مماحدث في أزمة الكساد العظيم عام 1929 ، حيث شهد النظام حينذاك هبوطا حادا في بورصة وول ستريت، شارع المال والبورصة, في 24 أكتوبر عام 1929م، وسمى هذا اليوم بـ "يوم الخميس الأسود"، وذلك بسبب التهافت على بيع الأسهم ، وأعلنت عشرات البنوك إفلاسها وأغلقت المصانع أبوابها. ونتج عن ذلك 30 مليون عاطل عن العمل, ونتائج الكساد الكبير لم تكن منحصرة فقط في الولايات المتحدة إنما أدى الأمر إلى تأثر جميع الأسواق المالية العالمية وإلى انهيار النظام الإقتصادي العالمي، ولقد عاد الاقتصاد في الولايات المتحدة خاصة والعالم عامة إلى ما كان عليه فقط بعد الحرب العالمية الثانية بعدة سنوات.
وقد أدى الكساد الكبير إلى إعادة النظر بسياسات آدم سميث الداعية إلى عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي (مبدأ اليد الخفية) وبداية عهد تطبيق نظرية كينز في الاقتصاد التي تقضي بضرورة تدخل الدولة والتي أسسها الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز John Maynard Keynes.
اليوم يمر العالم بظروف مشابهة فجاءت الأزمة الحالية (2008) نتيجة عجز عشرات الآلآف من المقترضين الأمريكيين عن الاستمرار في سداد قروضهم العقارية مما أدى إلى انهيار الائتمان العقاري في البنوك وأولها بالطبع البنوك العقارية ثم مالبث أن تدحرجت كرة الثلج وكبرت حتى أصبحت ازمة مالية طاحنة تجتاح العالم كله‏.‏
وخلال أسبوع واحد، انخفض مؤشر مورغان ستانلي بنحو 23 نقطة. كما انخفضت جميع الأسهم، ابتداء من شنغهاي ووصولا إلى ساوباولو بشكل كبير. وقبل خفض الفائدة العالمية بنحو 0.5 %، انخفضت الأسهم في كل من السعودية، ومصر، ودبي، والدوحة بنحو 50 % مقارنة بما كانت في أعلى مستوياتها في 2008.
و قال أوليفر بلانكارد كبير الاقتصاديين لدى صندوق النقد الدولي في تصريحات له مؤخرا إن الأسواق قد تتراجع في أسوأ الأحوال ‏20%‏ أخرى على أقصى تقدير، وصرح المدير التنفيذي للبنك الدولي دومينيك ستراوس بأن التكلفة الإجمالية للأزمة المالية العالمية زادت من التقديرات السابقة التي كانت تدور حول تريليون دولار الى 3ر1 تريليون دولار.
الأزمة إذن كشفت عن عيوب طاحنة للرأسمالية والعولمة منها الغياب المروع لدور الدولة ، وتطور مفهوم المال من وسيلة للتبادل ، إلى أن أصبح مخزنا للقيمة، ثم أصبح وحدة حساب ( Unit of account) ، وذلك بعدما تم إلغاء أنظمة (بيتل وودز) في 1973م من الولايات المتحدة، بأن أصبحت الأموال هي عبارة عن أرقام إلكترونية، نبضات إلكترونية الآن، ليس لها مخزون احتياطي من الذهب يقابلها، وأصبح هناك مؤسسات مالية تستطيع أن تضارب في العملات، وتستطيع أن تضارب في اقتصاديات الدول -حتى الكبيرة منها- إلى أن أصبح الآن هناك نوعين من الاقتصاد: الاقتصاد المنتج، ينتج السلع والخدمات، وكان قائما ، وكان المال -حتى وقت قريب- يخدم هذا الاقتصاد، لكن نشأ مؤخراً نظام مالي مضارب، ليس له هدف سوى جمع المال، وينتج عنه أنه أصبح عبئا على الاقتصاد المنتج. ويجسد شيخ المضاربين (جورج سورس) هذه الحقيقة في كتابه : "أزمة الرأسمالية" هذا الكتاب يحكي فيه سوروس أنه في سنة 92 ضارب على الجنيه الإسترليني.. وربح من هذه المضاربة اثنين مليار دولار خلال أسبوع واحد من المضاربة.
وكما أصبح معروفا فقد شاعت الأزمة بسبب لجوء البنوك إلى توريق قروضها العقارية الضخمة عبر سنوات واستحداث أموال جديدة أعادت إقراضها في دورات متعاقبة مستخدمة ابتكارات مالية متطورة وخطرة للغاية تعتمد اساسا على ماعرف باسم المشتقات‏..‏ والمشتقات تعرف بأنها هي القدرة أو السماح بالحصول على مراكز مالية مستقبلية ضخمة‏´‏ حقوق شراء‏´‏ بمقدمات زهيدة على العملات والسلع والمعادن والنفط وحتى الأموال والأسهم توقعا لارتفاع سعرها ليربح المضارب الفارق بين السعر الذي تم به الشراء والسعر في المستقبل‏.‏ وخلال السنوات الأخيرة حدثت تطورات مذهلة في تصميم المشتقات كأدوات مالية رغم ما حققته من خسائر فادحة لبنك بارينجز في هونج كونج ، وبنك سوسيتيه جنرال الفرنسي وكانت الخسائر بالمليارات‏.‏
وبجانب تطور مفهوم المال ومشكلة التوريق والمشتقات فقد شهدت العولمة فوضى السوق بلا أية ضوابط، بجانب سقم المنظومات القانونية التي تحكم حركة السوق الحرة، والرغبة في تحقيق أرباح سريعة، وخداع العملاء من العامة الذين رغبوا في امتلاك بيوت بسرعة قياسية بخلاف الأنظمة التقليدية التي تسمح للفرد بتملك البيت.
ولاريب أن الأزمة الحالية سوف تشهد إعادة النظر في الكثير من السياسات الاقتصادية الحالية أهمها عودة دور الدولة وفق النظرية الكنزية في الاقتصاد Keynesian economics ، وتركز هذه النظرية على دور كلا القطاعين العام و الخاص في الاقتصاد اي الاقتصاد المختلط حيث يختلف كينز مع السوق الحر (دون تدخل الدولة) اي انه مع تدخل الدولة في بعض المجالات. في نظريته يعتقد ان اتجاهات الاقتصاد الكلي تحدد إلى حد بعيد سلوك الافراد على مستوى الاقتصاد الجزئي ، و هو قد أكد كما العديد من الاقتصاديين الكلاسيكيين على دور الطلب الكلي على السلع وأن لهذا الطلب دورا رئيسيا في الاقتصاد خصوصا في فترات الركود الاقتصادي, حيث يعتقد انه من خلال الطلب الكلي تستطيع الحكومة محاربة البطالة و الكساد, خصوصا ابان الكساد الكبير. ومن السياسات المطروحة حاليا لإعادة النظر في السياسات الرأسمالية هو إعادة النظر في دور العالم النامي والدول الصغيرة التي كانت تابعة في الزمن الماضي أصبح يعترف بدورها وأهميتها في المرحلة القادمة في مواجهة الأزمة ومن الحلول المطروحة حاليا هو عقد مؤتمر دولي لمواجهة الأزمة المالية العالمية ، ويتحدث روبرت زوليك الرئيس التنفيذي للبنك الدولي إعادة تشكيل مجموعة الثمانية الصناعية بحيث يتضمن هذا التشكيل الجديد مجموعة تنسيق تتألف من مجموعة السبع G7 وروسيا والصين والهند والبرازيل والمكسيك والسعودية وجمهورية جنوب إفريقيا، موضحا أن الزامية التوسيع تنبثق من ضرورة اتخاذ خطوات منسقة لمعالجة الأزمة المالية العالمية الحالية. وأشار إلى أن الأعمال المنسقة ضرورية لإعادة الثقة وتأمين استقرار منظومة القروض في العالم.
فالأزمة ستظهر الدور الهام للصين التي ستخرج متعافية من هذه الأزمة ، والتي قد تقود العالم الثالث الى تصحيح مسار العولمة الرأسمالية ، وستزيد من الانشقاق بين ضفتي الأطلنطي ،والأرجح أن الحل سيأتي من أوروبا ومن الأحزاب الديمقراطية التي تتبنى مفاهيم اجتماعية أكثر إنسانية للاقتصاد الرأسمالي مع الحفاظ على أسس الاقتصاد الليبرالي ‏.‏
وهناك من يبدي تفاؤلا بهذه الأزمة ومنهم الدكتور جلال أمين الإقتصادي المعروف الذي يؤكد أن الأزمة الحالية التي قد تستمر عاما أو عامين ستشهد انخفاضا في صادرات الدول النامية الى العالم المتقدم وقد يدفع هذا الدول النامية الى التصنيع والتبادل التجاري بين الجنوب والجنوب . فهل يمكن أن تشهد الأزمة تحريكا لمشروعات العمل العربي الاقتصادي العربي المشترك وخاصة اننا على أبواب القمة العربية الاقتصادية في الكويت أوائل العام القادم 2009 .