-A +A
هاشم داغستاني
على طاولة المقهى الصغيرة اتسع بنا الحلم ونحن نرسم بشغف فصول قصة المجد التالية.. نفكك أحجية اللامستحيل، ونردد نشيد الوطن «بلادي بلادي منار الهدى ومهد البطولة نحو المدى». كنا متشبعين بنشوة الممكن، نتنفس رؤية مملكتنا الطموحة، ونؤمن بحق التربع على عروش التميز والسيادة. حينها كان الوطن يحمل في جيده ثلاث ميداليات أولمبية فقط، منظومة رياضية تعاني من نضوب الموهبة الواعدة، وغياب مربك في ترابط مسارات الرياضي الاحترافية وقلة جليّة في مسابقات الفئات السِّنية والحصص الرياضية المدرسية والأكاديميات الفاعلة. كنا ونحن نروي آمالنا للصفحة التي اكتظت جنباتها بالأرقام والأهداف والتطلعات.. والجرأة، نتجاوز اللحظة ونسافر بعيدًا هناك حيث يترقب الحلم انبلاج نور التحقيق في الأفق. أن نؤسس لحاضنة رياضية نخبوية، أكاديمية عالمية تكون أرضًا للموهبة ومرجعًا فنيًا ومعرفيًا للاكتشاف والتطوير. كينونة متناغمة تجعل من الموهبة ذاتها محورًا استراتيجيًا تطوف حولها الممكنات وتتعدى حدود الملاعب حتى نحقق البطولة ونبني الإنسان. كانت جميع الإرهاصات تستوجب ميلاد الـ«مهد»، الطموح الذي ولد كبيرًا بين الكبار، الأكاديمية الرياضية الوطنية ذات المنهجيات الفنية الفريدة والخبرات العالمية المتفوقة والقيادات الوطنية الشغوفة المتألقة.

بدأنا ببعض الأدوات والكرات، وكثير من الشغف، ودعوة مفتوحة لأبناء هذا الوطن الزاخر بالموهبة والتنوع والإبداع. آلاف المواهب اصطفت لتجارب الأداء، مخترقين حاجز «الكورونا» حينها، يحملهم آباؤهم إيمانًا بهم ويقينًا بما تكتنزه أجسادهم الصغيرة من إمكانات. كانت كل تجربة من تجارب الأداء كرنفالاً صاخبًا من الطاقة الغامرة والبهجة المُعْدية في المكان. هذه البداية كانت إحدى نوافذ التأكيد على الحاجة الملحة لأكاديمية نوعية، تعيد تعريف خارطة الرياضة الوطنية، وتجسر الفجوة العميقة في المنظومة الرياضية الشاملة. لذلك أخذنا نُقلّب التجارب العالمية ونشخص الممارسات السابقة وندرس الرياضات ذات الأولوية ونغرس المرتكزات الاستراتيجية ونعد دراستنا الأولية لتحويل هذا المشروع الوطني الواعد إلى كيان رسمي مستدام. هذا الطموح المتجذر كان مستمدًا من العناية السامية من قبل قيادتنا الرشيدة وعطائها الوافر وتمكينها اللامحدود للقطاع وإنسانه والذي توّج بالموافقة التاريخية السامية الكريمة رقم (654) على إنشاء أكاديمية مهد الرياضية.


نعم تحوَّل الحلم إلى كيانٍ ينبض أملًا وعملًا، إلى حقيقة تتنفس تلك الطاقة الكامنة في نفوس آلاف المواهب في شتى الأمصار والأقطار، إلى أرض خصبة ترويها قطرات العرَق الندية على جباه الرجال الحالمين الأخيار.. بأننا نستطيع. أصبح الحلم حقيقة نابضة حية مكَّنتها مرتكزات ترتيبات الأكاديمية التنظيمية واعتماد مجلس إدارتها الأول. هذه الممكنات وأكثر كانت حجر الأساس للبدء بشكل استباقي في تأسيس المنظومة ووضع أطر الحوكمة الرشيدة لها وتصميم نماذجها التشغيلية وإعداد اللوائح والإجراءات والهيكلة الوظيفية والخطط والاستراتيجيات، استعدادًا للقفزة الطموحة التالية على مضامير العمل والتغيير.

كانت مرحلة البناء مفعمة بالتعلم المستمر والعمل الدؤوب كفريق ألمعي متحد واحد. مرحلة تلفعك من قيظ التجربة تارة وتهبُّ عليك من نسيم الإنجاز تارة أخرى. لم تكن مباريات التأسيس سهلة أبدًا! فالكر والفر والتقليب والتعديل وغيرها أنماط شكلت هوية المرحلة وطبيعتها الغامضة. كنا نعمل على مدار الساعة نوازن بين برامجنا الرياضية ونجوِّدها وننكب على ترصيص لبِنات المنظومة الداخلية ونسويها بإتقان. كانت أصوات الأطفال وشقاوتهم البريئة تعبر نوافذ مكاتبنا خلسة لتبعث فينا نفسًا باردًا من الأمل وتذكرنا بمن نكون. كنا نعيش خططنا حقيقة كل يوم! كأننا نخط بقلم حي يجسد الأرقام والأفكار والطموحات واقعًا على الملاعب ومنصات التتويج.

على طاولة المقهى الصغيرة.. كانت حكايتنا!

حلمٌ جريء احتضنته تلك الورقة البيضاء البسيطة وانبجس متحررًا من زواياها ليصنع الأمل القريب. كانت تلك الطاولة بمثابة فجوة زمنية مفرغة من الفوضى، نقطة ارتكاز قفزت بنا بعيدًا فوق ضوضاء التشكيك والتحطيم والمستحيل. ثورة بنَّاءة أعادت تشكيل مبادئ اللعبة من جديد. مهد هي ذاتها جنين بوعي وطن! يماثل نمو الطموح في عيون كل موهبة. الطريق طويلة.. وما زال للدهشة فصول يكتنزها مستقبل هذا الكيان العامر بقاداته وتطلعاته ومواهبه. والآمال كبيرة على مستقبل الموهبة القادمة لتحمل تلك الأمانة النَفِيسة كرَسيٍّ قويم على أكتاف الوعد. لذلك «جا الوقت» لمهد أن تحتوي بادرة المجد الأولى منذ البزوغ، وتقف كسارية شاهقة تُخبر أن بطلًا سعوديًا مر يومًا من هنا.

@Hashemdagh