-A +A
اعداد: هاشم الجحدلي تصوير: عبدالرزاق العوض
هكذا وصلنا للنهاية أو المحطة الأخيرة من كتابتنا عن الشاعر والمفكر الكبير محمد عبدالله العلي، حاولنا، وحاولنا، وحاولنا أن نرصد بعضاً من مسيرته واشتاتاً من سيرته ولكن لأنه أرحب من الكتابة فاض عن الحد، وصار صعباً ومستحيلاً ان نلم بكل شيء.. ولكن هذا ما استطعنا اعداده للنشر أما ما تبقى فهو كثير وجزيل.. ووافر.. وربما تتاح لنا في كتابة قادمة استكمال ما تبقى.وندع سرد التفاصيل الأخرى لزمان آخر، وحالة مختلفة.. ولكننا نعود هنا الى المحطات الأساسية.. وبالتالي نتتبع مسيرة العلي..
نبدأ هنا من آخر محطة ألا وهي مدرسة ثانوية الدمام التي حل بها مدرساً في عام 1965م.. ولكنه لم يستمر بالتعليم طويلاً إذ صدر بعد ثلاث سنوات قرار نقله إلى إدارة التعليم وهنا سألته، لماذا، هل مللت من دور المعلم متذكراً مقولته في اثنينية الخوجة حيث قال معلقاً أو راداً على أحد الأسئلة: (من الأفكار الجاحظية العشوائية، هو حملته على المعلمين.. المعلم بالنسبة للجاحظ يساوي الأبله، ويتعجب الجاحظ ان يبقى يدرس عشرين عاماً ولا يجن، هذه فكرة جاحظية، فكرة يناصرها كثير من الناس وهو ان التدريس باعتباره يدور في دائرة واحدة يجعل التكرار أليفاً عند الإنسان، والإنسان إذا كرر نفسه مات فكرياً.. لكنني ضد الجاحظ لا أؤمن بهذه الجوانب، فالمعلم الذي يستحيل الى مسجل تنطبق عليه مقولة الجاحظ، لكن من يريد أن يجدد نفسه ويحمل الأمانة تلاميذه، يبصرهم بحياتهم وأن يفجر قدراتهم، فهذا المعلم يجدد نفسه والآخرين، يهب الحياة للآخرين.. الحياة الفكرية، ومثل هذا المعلم موجود ولكنه قليل نادر.

مرحلة التعليم مرحلة استفادة كبرى، وقد ودعت حقل التعليم كما يودع الشاعر بيت حبيبته، ودعته باكياً كما قال الشاعر:
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وإني لا أودعه
هكذا كانت إجابة العلي في ليلة تكريمه ولكن أجابني باختصار:
- لم أمل من التعليم ولكن يبدو أن ما أقوم به من نشاطات لاصفية كان يضايق البعض، خاصة انني كنت محبوباً من تلاميذي مما استدعى نقلي أو بمعنى أدق (ركلي الى الأمام أو الأعلى) فعينت بعد ثلاث سنوات مسؤولاً عن الاختبارات بإدارة التعليم بالدمام.
العلي رئيساً للتحرير
استمرت تجربة العلي في الدمام معلماً وبعد ذلك مسؤولاً عن الاختبارات حوالى الـ17 عاماً تقريباً، وسيلاحظ أو لاحظ القارئ أننا أكثرنا من حوالى وتقريباً، وذلك لأن لأستاذنا العلي يذوب الزمن ولا يُعنى بالتواريخ كثيراً، ولا يحفل بالتوثيق لدرجة انك قد لا تجد مسودة قصيدته أو مقالته التي كتبها البارحة، المهم ان العلي من عام 1965م الى عام 1982م كان على ملاك وزارة المعارف سوى سنتين إلا قليلاً أوكلت اليه خلالهما مهام رئاسة تحرير صحيفة اليوم الأثيرة لديه منذ الكتابة الأولى.
في هذه السنوات لم يكن أستاذنا ابو عادل حاضراً فقط، بل كان متوهجاً اذ كتب رائعته (لا ماء في الماء) عام 1975 وكتب قبلها الكثير ولكنه توقف عن النشر من عام 1976 حتى عام 1982م توقف عن نشر قصائده أو ربما لم يكتب أبداً وتفرغ لعمله، وللقراءة، ولكتابة مقالاته الرائعة.. اضافة الى تواصله المتوهج في المنطقة الشرقية آنذاك اضافة الى بعض المشاركات الأدبية والفكرية.
هكذا كان استاذنا العلي حاضراً، ومتوهجاً يكرس الوعي في أبهى صوره، والابداع في حالته القصوى لكنه ظل بلا عمل منذ 82-85، وفي عام 1986 عيّن مشرفاً تربوياً في الهيئة الملكية بالجبيل.. واستمر في هذا العمل حتى عام 1993-1414هـ حيث استراح المحارب.. المعلم.. وتفرغ للكتابة.. وللإبداع.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: متى نرى العلي على الورق فبعد أن استمعنا الى شعره وأفكاره، وبعد أن جمع له الخاقاني وشاكر النابلسي وأخيراً الجهد الهائل لعزيزة فتح الله.. كيف نرى العلي كما يريد، اطرح عليه هذا السؤال فيرد (فرجت اخيراً سيصدر ديواني بعد ان اجتهد بعض الأحبة في جمعه.. كما ان مقالاتي سوف تصدر تباعاً في سلسلة اصدارات).
التقط من أبي عادل هذه المعلومة وأعرف ان الأستاذ محمد الشقاف أحد أبناء العمران الشغوفين بالعلي بالإضافة الى بعض أصدقائه ومحبي العلي قرروا رصد إنتاجه وقد وصلوا في ذلك الى مراحل متقدمة:
منذ أكثر من عقدين من الزمن وأنا أقرأ للأديب الكبير الأستاذ محمد العلي ما يكتبه شعراً ونثراً في جميع زواياه المختلفة وأتقصى كل شاردة وواردة له، حتى فكرت أن ألتقي به شخصياً وكنت متردداً في ذلك لأنه كان يعيش في عزلة (معرية)، حتى عزمت واتصلت به هاتفياً بطلب لقائه فوجدت منه ترحيباً لا ينم إلا عن كرمه الأحسائي الأصيل وتم الترتيب لذلك وفعلاً قابلته مع وفد من الشباب حيث كان على رأس الوفد الأستاذ الباحث أخي محمد الغنام (ابو طالب) وعملت معه لقاء شبه صحفي وتعرفت عليه أكثر عن قرب فسألته هل لك ديوان يضم شعرك أو كتاب يضم ما تكتب أجابني بـ(لا)، وقال انه ليس مهتماً بذلك فهو يكتب المقال ويرميه لايحتفظ به والشعر كذلك، ففكرت أن أقوم بجمع مقالاته التي يكتبها وأضمها في كتاب حتى لايضيع هذا الثراء الفكري والأدبي وأن لايكون حبيس الأراشيف ورهين الخزائن وان تلفه المستودعات بغبارها والأيام بنسيانها حيث قمت أنا وزميلي الأستاذ (حمزة الحمود) بجمع ما يقارب 300 مقال وكان هذا بعد إلحاح وإصرار شديدين مني على الأستاذ العلي حتى وافق على ذلك حيث كان زاهداً في مثل هذا الأمر، وبقي أن اختار العنوان للكتاب فرجعت له على ان يختار عنواناً للكتاب فاختار عنوان (كلمات مائية) للكتاب حيث أن هذا عنوان لزاوية كان يكتب فيها بجريدة اليوم. وعزمت عزماً أكيداً حتى اتفقت مع (دار الانتشار العربي) ببيروت بطبع (2000) نسخة كطبعة أولى والآن الكتاب يضم (575) صفحة وهو في مراحله المتقدمة من الطبع وسوف يرى النور قريباً.
وأخذت هذه الرحلة مع (العلي) أكثر من سنة ونصف السنة حتى مل من إلحاحي وزيارتي وأقنعته بذلك وتبدأ معاناة أخرى وهي جمع (ديوان) يضم قصائده القديم منها والحديث. وفعلاً بدأ بالحديث معه على ان اجمع له شعره في ديوان وأخذ بالتسويف معي ويؤجل الحديث معي الى وقت آخر وكأني أريد أن استل منه سره المجهول وطلبت منه ما عنده من قصائد وقال لي: ان معظم قصائدي في لبنان سوف احضرها لك حينما اسافر وانتظرت 6 أشهر وسافر ولم يحضر لي أي شيء وحينما سألته قال: اني نسيت. شعرت انه لا يرغب في جمع ديوان لشعره حتى قلت له سوف أجمع قصائدك وأصدر لك ديواناً حتى لو لم توافق على ذلك فعزمت على ان أجمع شعره المتناثر انا ومعي الأستاذ حمزة الحمود، وأخذنا بالبحث والتحري عن كل قصيدة له وجمعنا ما يقارب 76 قصيدة من القديم والحديث وتم جمعها من لبنان وسوريا والعراق، وبعضها عثرنا عليها داخل المملكة ولم يعطنا (العلي) قصيدة واحدة. وكنت أسأل كل من له اهتمامات ادبية عن أي قصيدة أو بيت من قصيدة تخص الأديب (العلي) وفعلاً جمعت 76 قصيدة بعضها اخذتها من تسجيلات صوتية له طاف عليها زمن طويل وطلبت منه عنواناً للديوان فاختار عنوان (آه.. متى أتغزل) وهذا عنوان لقصيدة له وكتب مقدمة الديوان الشيخ الأديب (يحيى الراضي) والديوان الآن قيد الطبع، وسوف يطبع على نفقة النادي الأدبي بالشرقية، وأنا أشكر لهم ذلك وعلى رأسهم رئيس النادي (جبير المليحان).