-A +A
طلال صالح بنان
من مرتكزات السياسة الخارجية الأمريكية محاربة الدول التي تصنفها بالمارقة، لخروجها على القانون الدولي وتحديها لقواعد التعامل المتحضر بين الدول، انتصاراً لما تزعمه: سلام العالم وأمنه.. وحفاظاً على استقرار نظام الأمم المتحدة. واشنطن لم تكن تكتفِي بوصف هذه الدول بالمارقة، بل تنعتها بدول الشر. «بروباغندا» دبلوماسية كانت واشنطن، ومازالت تحارب بها خصومها وأعداءها الدوليين، جاعلة من نفسها «الحارس الأمين» على القانون الدولي.. والمدافعة شديدة المراس عن استقرار النظام الدولي، والمسؤولة الرئيس عن سلام العالم وأمنه.

لكن ماذا لو كانت هذه القوة الدولية العظمى، نفسها، تجاهر بخرقها للقانون الدولي.. وتدفع العالم إلى حالة عدم استقرار.. ولا تتحرج من نصرة الباطل على الحق، مخالفةً ليس فقط نصوص القانون الدولي، بل وقانونها الخاص المحلي، الذي حكم سياسة الولايات المتحدة الخارجية، تجاه أخطر وأعقد قضية عالمية، كانت ومازالت تهدد سلام العالم وأمنه.


يوم الإثنين قبل الماضي أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية: أنها لم تعد تعتبر الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967 أراضي محتلة.. ولا تنظر إلى المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية مخالفة للقانون الدولي!؟ وكان قد سبق لإدارة الرئيس ترمب أن اعترفت بالقدس الشرقية عاصمةً لإسرائيل.. وأقرّت ضم هضبة الجولان السورية لإسرائيل.

لكن هل يغير هذا التحول الجذري للسياسة الخارجية الأمريكية من الوضع القانوني والسياسي، بل وحتى الواقع الجغرافي الدوموغرافي، للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.. ويمهد الطريق لشرعنة التوسع الإسرائيلي في المنطقة، في ما قد يتجاوز حدود المناطق مثار الجدل.. وتحكمها قرارات ملزمة، ساهمت الولايات المتحدة نفسها، في صياغتها وفرضها.. والتزمت بها حكومات أمريكية متعاقبة، لأكثر من ستة عقود ونصف.

الولايات المتحدة في مراحل انحدار وضعها المهيمن على النظام الدولي، ليست في وضعٍ يجعل العالم أن يذهب إلى ما ذهبت إليه، بخصوص قضية معقدة وشائكة، مثل قضية الشرق الأوسط. لقد جاءت ردود فعل فعاليات مؤثرة في النظام الدولي سريعة وحاسمة، ربما بصورة أكثر قطعاً وحسماً، من تلك التي كان يُنتظر صدورها من الأطراف المعنية في المنطقة. لقد سارعت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وكثير من دول العالم المحبة للسلام، بإعلان رفضها لهذا التحول في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه التسوية السلمية في المنطقة، باعتباره عامل عدم استقرار في منطقة متوترة، أصلا.. ويفتح الطريق لموجة من العنف، ربما لا يقتصر على المنطقة، بل قد يعم العالم بأسره.

لا ينتظر العالم، ولا أصحاب القضية المباشرون، الكثير من فعاليات النظام العربي ولا من مؤسساته الإقليمية. النظام العربي، هذه الأيام غَيّرَ من قيم وسلوك تعامله مع القضية.. ومن نظرته لوجود إسرائيل، نفسها، لدرجة غض الطرف عن أطماعها التوسعية.. وأخذ، مؤخراً، يقترب أكثر من تل أبيب، بقدر بعده عن القضية الفلسطينية، ومن موقفه التقليدي من وجود إسرائيل. العربُ، هذه الأيام، يستكشفون إمكانية التطبيع مع إسرائيل، بما يتجاوز أي اقتراب رسمي معها في شكل عقد معاهدات سلام.. وإقامة علاقات دبلوماسية.. وإنهاء حالة الحرب مع الدولة العبرية، بما يتجاوز ما قررته مؤسسات النظام العربي، وخاصة مؤسسة القمة العربية، بربط إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل مع انهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي، التي احتلتها في حرب 1967.

في ظل هذا الوضع العربي شديد «الميوعة» من قضية الشعب الفلسطيني.. وقضية الأمن القومي العربي، بصفة عامة، لا يمكن في حقيقة الأمر لوم أعداء العرب، على ممارسة هوايتهم التاريخية العبث بأمن العرب.. والطمع في ثرواتهم، والنيل من استقلال دولهم. إذا كانت القضية، بالنسبة للعرب، لم تعد تَحْظَ بمركزية مكانتها الاستراتيجية والتاريخية الخطيرة، فإن أعداء العرب ليس أمامهم إلا الاحتفال بهزيمة العرب واستسلامهم، بدون حرب.. وبأقل التكاليف وأرخصها.

لم يبق للتصدي لكل المحاولات لتصفية القضية الفلسطينية.. وتنصيب إسرائيل كقوة إقليمية مهيمنة على المنطقة، إلا جذوة النضال، التي مازالت متقدة في ضمير الشعب الفلسطيني الصابر على الحصار، المُعايش للمعاناة تحت القصف.. والمرابط في أكناف بيت المقدس، الذي على صخرةِ صمودهِ ومقاومتهِ تتحطم كل محاولات حرمانه من حقه الطبيعي غير القابل للتصرف في تقرير مصيره بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس. الشعب الفلسطيني، بحراكه النضالي المجيد هذا، ليس وحده في الميدان. هناك مئات الملايين من العرب والمسلمين وأحرار العالم المحبين للسلام، من يؤمن بقضيته.. ويشد من أزره، بحيث لا يضيره من خذله، وهو مرابط في أكناف بيت المقدس.

هل هي يا ترى مصادفة: أن يأتي إعلان واشنطن بعدم اعتبار الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مخالفاً للقانون الدولي.. الأمر الذي يرقى لأعلى مستويات الفساد الأخلاقي، الذي يمكن أن تنحدر إليه الدول، في سياستها الخارجية، وقمة الحكومة في تل أبيب وواشنطن تلاحقهما تهم الفساد، تكاد تطيح برؤسهما. في واشنطن يتعرض الرئيس ترمب، هذه الأيام في الكونجرس لإجراءات عزله، قبل أن تنتهي ولايته.. وفي تل أبيب صدرت، منذ أيام، لائحة اتهام جنائية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو)، يمكن أن ينتهي بسببها إلى السجن.

الاثنان متهمان بنفس تهم الفساد، وسوء استغلال السلطة، والرشوة، وخيانة الأمانة، والحنث بالدستور. أشخاص ورموز يكشفون عن عوارٍ أخلاقيٍ في الممارسة الديمقراطية، بنسختها اليمينية المتطرفة العنصرية المتنكرة لقيم الليبرالية الحقة. لا عجب، إذن: أن مخرجات أنظمة مثل هذه ينخرها الفساد، حتى رأسها، تخرج منها سياسات لا ترعى للقانون إلاً ولا ذمة.

الخروج عن القانون، لا يردعه إلا الإصرار والتصميم على فرضه، بالقوة الجبرية.. وليس مِثْلُ أصحاب الحق من يفرض احترام الآخرين لحقه.. ويجبرهم الانصياع لقوانين السماء والأرض.

ما ضاع حقٌ وراءه مطالب.

* كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com