هل الإنسان بطبيعته محافظ وتقليدي ؟ هل ينشأ في العادة مطيعاً ومقتنعاً بكل ما يتربى عليه ويتلقاه في طفولته وصباه ؟ إن التقليد : تقليد الآخرين والكبار الذين خبروا الحياة وجربوها هو أساس النمو الصحيح للطفل عقلياً وبدنياً . فما الذي يجعل من التقليد عقبة في طريق التقدم الإنساني على المستوى الفردي أو الحضاري ؟! هل نحن إزاء نوعين من التقليد ؟
في الواقع التقليد هو المحاكاة والمشابهة والمحافظة , ونقيضه التجديد الذي هو المخالفة والمغايرة والتجاوز . وقد تكون المشابهة أو المخالفة جزئية أو كلية .. وبما أن المشابهة والمخالفة الكليتين محالتان فالعبرة إذن بالجزئية .
والمراد بالمشابهة الجزئية تقليد المقلَّد ومشابهته في جوانب دون أخرى والمقصود بالمخالفة الجزئية رفض جوانب ومحاولة تجاوزها والإبقاء على أخرى ! فما الفرق بينهما إذن مادام كل منهما يبقي على شيء ويرفض شيئاً ؟ لكي نعرف الفرق لا بد أن ننظر في طبيعة الجوانب التي يتم رفضها وقبولها من الطرفين . وسنتعرف وقتها على صحة سلوك الطفل حينما تلجئه الغريزة إلى تقليد الكبار . فالطفل أيضاً يقلد في جوانب ويرفض (يشاكس) في جوانب أخرى .
ولنبدأ بالتقليدي وهو الشخص الذي يحاكي الآخرين في بعض الجوانب . فما هي هاته الجوانب التي أصبح بتقليده لها شخصاً مذموماً – في نظر التفكير العلمي الحديث وليس في نظر عامة الناس ؟ قبل أن نجيب عن السؤال ينبغي أن نذكر بأننا سنركز على الجوانب الفكرية والروحية وأما الجوانب السلوكية رغم أهميتها إلا أنها تنبع في الغالب من التصورات الفكرية بحيث تكون الأخيرة بمثابة علتها أو سببها .
إن الشخص التقليدي وإن كان مقلداً للآخرين تقليداً طبيعياً (غير مذموم) في جوانب لا صلة لها بالفكر كتقليده لهم في الزي وطريقة السلام وبعض الآداب الخاصة بالمناسبات والمناشط العامة وقبل كل شيء تقليده للآخرين في اللغة ؛ حيث يكتسب لغتهم من أجل التواصل والتفاعل والحفاظ على وجوده الاجتماعي .. إلا أنه يقلد الآخرين تقليداً أعمى ( وهو التقليد المذموم ) وخصوصاً في مجال الأفكار والقناعات . فما يمتاز به الإنسان عامة هو العقل . وما يميز الفرد خاصة لكي يكون مبدعاً هو الذكاء .. وأقصد به الذكاء النظري قبل الذكاء العملي.
الطريقة الوحيدة
والذكاء يقتضي التجديد والإتيان بما هو مغاير ومخالف .. وسن طرق جديدة للتفكير والسلوك والتعامل والإدارة . وأما البقاء على الحال التي يلفيها الشخص سائدة في مجتمعه فإنها لا تؤهله لأن يكون مبدعاً ذكياً . وبالتالي لن تهيئ البلاد التي يعيش فيها لكي تستفيد من عقول المبدعين من أبنائها .
فالتطور والرخاء كلاهما مرتبط بالتجديد لأنه هو الطريقة الوحيدة التي تساير طبيعة الحياة وسيرورة التاريخ .. فالحياة تتغير وتجدد نفسها باستمرار والعمل الصائب هو أن يتجدد المجتمع معها لكي يستطيع العيش فيها ويستثمر خيراتها بل ويسيطر عليها بقوة العقل الجبار الذي يستطيع أن يتغلب عليها متى ما تم الاستفادة من طاقته الهائلة على أكمل وجه .
ومواكبة تطور الحياة يعني التجديد والابتكار والنقد .. فلا تجديد بدون نقد ولا نقد لمن يسلِّم بصحةِ ما ينشأ عليه من أفكار وتصورات دون أن يمحِّصها ويناقشها ويطرح عليها الأسئلة ويشاغبها لكي تكشف له عن عيوبها وتناقضاتها وعدم ملاءمتها للحالة التاريخية الراهنة . كثيراً ما نرى الشخص التقليدي يتعصب بشدة لآرائه التي هي في الواقع آراء غيره من الناس الذين سبقوه أو عاصروه .. والمفارقة أن الشخص التجديدي , على العكس من ذلك , لا يتعصب للآراء التي هي بالفعل آراؤه !
والسبب في رأيي أن الأول لا يملك الثقة بعقله فإذا ما فقدت هذه الآراء التي يعتنقها قيمتها وأصبحت باطلة وهو غير قادر على ابتكار الجديد؛ فإنه سيشعر بفراغ عقلي كبير وخواء روحي خطير .. أو هكذا يظن ! ولذا تراه يتشبث بالآراء التي تلقاها منذ النشأة , ولا يحيد عنها إلى غيرها طرفة عينٍ .
الشخص التجديدي
أما الشخص التجديدي الذكي فإنه لا يخشى فقدان آرائه لقيمتها لأنه قادر على إبداع واكتشاف آراء وأفكار أكثر جدوى وقيمة .. بل إنه – مادام مؤمناً بالتجديد الذي يعني عدم السكون وعدم التسمر عند آراء بعينها – يكون على أهبة الاستعداد لفقدان الفكرة .. ويمكن القول إنه هو ذاته الذي يقضي على فكرته ويكشف ضعفها متى ما عجزت هذه الفكرة عن الصمود إزاء التغيرات ومتى ما ارتقى صعوداً على درجات العلم والمعرفة .
إن الشخص التجديدي لا يصادم المجتمع والواقع أو لا يرغب في ذلك , ولكنه بالمقابل لا يخضع لهما خضوعاً أعمى بحيث يجعلهما يمليان عليه الآراء والأفكار التي يتوجب عليه اعتناقها . وكأنه لا يزال ذلك الطفل الضعيف “ القاصر “ الذي يحتاج إلى الرعاية والتوجيه . فالطفل الرضيع يشعر - غريزياً - أنه ضعيف , وأنه يحتاج إلى معونة والديه لكي يحيا . وتقليده هذا من النوع الغريزي وهو تقليد محمود ..ولكنه مع اكتمال نمو عقله يبدأ بالتمرد والمشاغبة حيث يكتشف قوةَ عقله ( الصغير ) فينساق معه بكل فرح نحو المغامرة وحب الاطلاع ومحاولة الكشف عن المجاهيل وطرح الأسئلة المحرجة والمستعصية على الحل .. فتبدأ الثقافة هنا بتطويعه وترويضه وقمع الشعلة المتقدة في رأسه وأخص بقولي الثقافةَ التقليدية التي تُربي أبناءها تربية محافظة هدفها تكرار ونسخ النماذج السائدة والموروثة , والترويج للقيم المغرقة في مثاليتها ونمطيتها والتي تتعالى على طبيعة الإنسان وطبيعة الطفل . وأما التربية العصرية فتراعي الجانب الحيوي المتمرد في الطفل وتعمل جاهدة على استثماره للصالح الخاص والعام من خلال تحويل هذه الطاقة الهائلة إلى إبداع , وليس من خلال قمعها وشجبها !
غريزة الاجتماع
يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أن التنوير هو الخروج من حالة “ القصور “ التي فرضها الإنسان على نفسه .. والاعتماد على العقل .
إن حالة القصور هذه سببها التقليد ويعاني منها كل مجتمع محافظ , ولذا فهو بعيد جدا عن التقدم العلمي والتطور الحضاري , مادام هذان مقترنين بالتجديد وترك التقليد .
والمجتمع – إجابة على سؤالنا في مستهل المقال – ليس بطبيعته محافظاً ولا مجدداً ؟ بل ليست له طبيعة محددة مادام المجتمع حالة ثقافية إنسانية – إذا تغاضينا طبعاً عن غريزة الاجتماع التي لدى البشر – والرهان يكون على “ الثقافة “ وعلى الأفراد الأكثر ذكاء وجرأة . فمتى ما تمرد الأفراد الأذكياء على الثقافة الجامدة وابتدعوا لها سياقاً تاريخياً اجتماعياً غير السياق الذي تعثرت فيه , فإنها ستكون دافعاً لأفراد المجتمع لكي يستغلوا طاقاتهم العقلية والروحية في إبداع حياة جديدة مشرقة وطموحة .