من أين ابدأ؟ اعتراني هذا السؤال وأنا اجمع شتات ما تناثر من سيرة الراحل الكبير الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري الذي اختصر أولويات كثيرة في شخص واحد، ولكنه كان آخر ما يلتفت له هو تجسيد ذاته على الورق. كان التويجري مفتونا بالروح والفكر والرؤى العميقة لذلك كان في كل كتبه محلقا في فضاء التأمل.. متبحرا في محيط الحقائق والوقائع.. معتبرا أسلوب الرسائل مع أولاده واصدقائه ومحبيه ومثقفي أمته هو الأسلوب الأعمق لسبر غور الروح الانسانية. أجل من أين ابدأ؟ مرة اخرى وأنا لست ذلك الذي رافقه أو عمل معه أو تواصل معه فلقاءاتي به تختصر في ثلاثة لقاءات اثنان منهما كانا عابرين في فضاء الجنادرية الأثير لديه.. والأخير وهو الحقيقي والعميق والذي اختصر زمنا طويلا بالاعجاب به على طاولة الحوار. في ذلك الحوار الذي كان بمناسبة كتابتي لسيرة المفكر المختلف عليه عبدالله القصيمي.. ونسق له الاستاذ سلطان البازعي وجدت نفسي امام أحد أهم الكبار في بلادنا وفي الوطن العربي. وبالرغم من أن عملي الصحافي أتاح لي فرصة لقاء رؤساء دول واصحاب تجارب.. ومفكرين.. وشعراء.. الا انني استطيع ان أقول ان الشيخ التويجري كان من القلة الذين أثروا حياتي بتجاربهم وباللقاء بهم.
ففي كلماته الدقيقة الدلالات.. وفي نظراته الناصعة.. وفي رؤيته للواقع وقراءته للمستقبل واستشرافه لقادم الأحداث كان عقلانيا.. ودقيقا.. ووفيا للافكار التي يؤمن بها ويتبناها من أجل وطن شاهق وأمة ناهضة.
كان الفكر يحتل منطقة لا ينازعه فيها أحد ولكن الشعر متمثلا في نموذجه الأعظم في ذاكرتنا العربية الشاعر المتنبي يحضر بقوة.. وبشكل لا مثيل له الى استاذه الغامض في ظاهر مدينة المجمعة..
من أين ابدأ؟
سأبدأ من مسقط رأسه حوطة سدير والمدينة التي احتضنت طفولته ويتمه.. المجمعة.
مدينة المليون نخلة
نعم، فمن المجمعة حاضرة اقليم سدير التي اسماها الدكتور محمد عبده يماني بمدينة المليون نخلة اثناء زيارة سابقة انطلق فكر الراحل الكبير يتشكل.. ويأخذ ابعاده الشاسعة.. والعميقة ولكن قبل ذلك لابد من اطلالة سريعة على هذا الاقليم وهذه المدينة ولن نجد وصفا لها أجمل مما كتبه عنها حمود بن عبدالعزيز المزيني حيث يقول: (تأسست هذه المدينة عام 820هـ بعد انشاء بلدة حرمه الملاصقة لها بخمسين عاما.. وكلا البلدين قاما على اطلال قرى سابقة لبني عائذ وغيرهم).
وكان أول من بدأ العمارة بها عبدالله الشمري ومن ثم تقاطر عليه أفراد من مختلف القبائل وعمروا واستقروا فنمت هذه المدينة شيئا فشيئا على مر الزمن حتى اصبح لها شأن في تاريخ المنطقة.
هذا وقد استمرت الامارة في ذرية عبدالله الشمري حتى عام 1193 حيث عزل الامام عبدالعزيز بن محمد آل سعود رحمه بن عثمان الشمري أمير المجمعة وعين بدلا عنه عبدالله بن معيقل أميرا عليها وبذلك انتهت الزعامة المحلية واصبح أمراء المجمعة بالتعيين من آل سعود منذ ذلك التاريخ.
تجمع القبائل
ويستمر بعد ذلك حمود المزيني في سرده لنمو مدينة المجمعة قائلا: مدينة المجمعة اصبحت قاعدة لمنطقة سدير- محافظة المجمعة حاليا منذ عهد الدولة السعودية الأولى فهي مقر قضاة سدير وهي مقر بيت مال سدير وكان لبيوت المال في الماضي أهمية كبيرة بالنسبة لموارد الدول وهي مركز الادارة الطبيعي لمنطقة سدير وكما قال لـ”وريمر” في كتابه دليل الخليج العربي هي المدينة الرئيسية ومركز الادارة الطبيعي لمنطقة سدير في نجد.
وكما كانت المجمعة في الماضي ملتقى للقوافل المتجهة من نجد إلى العراق والكويت والقادمة منهما، فهي في الوقت الحاضر ملتقى للطرق الدولية التي تخترق المملكة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.
ففي وسط مدينة المجمعة يلتقي طريق الكويت والشمال المتجهة إلى الاماكن المقدسة بطرق الرياض- سدير- القصيم- المدينة المنورة السريع والمرتبط بالطرق الدولية مع المملكة.
أما سبب تسميتها بالمجمعة فقيل لكونها تجمع أسراً عديدة من قبائل مختلفة على خلاف المعهود في ذلك الزمن.
وقيل وهو الاقرب الى الصواب ان هذه التسمية بسبب كونها تقع في ملتقى عدد من الأودية تجتمع الى جوارها أكبرها وادي المشقر الذي تقع المجمعة على ضفته اليمنى وبعد ذلك يتجه منطلقا الى الخفيسة شرق المجمعة بـ 50 كلم هذا ويتربع جبل منيخ وقلعته التاريخية الى الغرب من المدينة حيث يطل عليها.
طفولة التويجري
وفي هذه الاجواء الطبيعية وبعد ان تعزز الوضع في المجمعة بعد انضمامها رسميا الى حكم الملك عبدالعزيز آل سعود الذي كان عام 1326هـ ولد الشيخ عبدالعزيز التويجري ويصف الزميل محمد السيف تلك اللحظة بقوله (قبل مائة عام وعام أي في عام 1326هـ انضمت مدينة المجمعة الى حكم الملك عبدالعزيز ودخلت في رداء الدولة السعودية التي بدأت في التشكل حينذاك، وبعد هذا الحدث المهم في تاريخ المدينة عاد بعض أعيانها إليها بعد ان غادروها مكرهين. وكان من ضمن العائدين أحد وجهائها واعيانها المشاهير وهو الشيخ عبدالمحسن بن محمد التويجري الذي عاد إليها قادما من العراق ليباشر عمله في العهد السعودي الجديد مديراً لمالية المجمعة وسدير وبعد أربعة عشرة عاماً من هذا الحدث كانت المجمعة على موعد مع أحد أبرز ابنائها النابهين الذي سنقدمه ليكون احد رجالات الدولة المخلصين وأحد رموزها المخلصين كان هذا هو عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري الذي خطا أولى خطواته على هضاب ووهاد المجمعة وعاش في كنف والده الذي لم يمهله القدر طويلا ليسر برؤية ابنائه وهم يساهمون في خدمة دينهم ووطنهم ومليكهم اذ اختطفه الموت على ساحل الخليج العربي، عائداً من الدكتور “ديم” بعد ان وجه الملك عبدالعزيز بعلاجه لديه في البحرين الذي نصحه بالرجوع إلى أهله بعد أن يئس من علاجه فكانت الوفاة عام 1346هـ قريبا من بلدة الجبيل الحالية.
وكان الطبيب الامريكي ديم الدكتور بالارسالية الامريكية في البحرين شخصية شهيرة في ذلك الوقت وعالج عددا من الشخصيات المعروفة حتى ان الشاعر محمد الفيحاني قال عنه بعد موت حبيبته مي (لا الدوى ينفع ولاطب ديم).
الولادة واليتم
اذاً ونحن نستعيد تلك الأيام نتذكر ان الشيخ التويجري قد ولد بحوطة سدير القريبة من المجمعة عام 1340هـ قبل ان ينتقل بعد وفاة والده الى مدينة المجمعة وعمره حوالى الست سنوات ويبدأ مغامرة الطفولة بها ويروي الشيخ التويجري تفاصيل تلك اللحظات بلغة مريرة وحزن فادح حيث يقول عنها (كانت أيام طفولتي بعد وفاة أبي -رحمه الله- على شواطئ الخليج بجانب والدتي في حوطة سدير وكانت لي في هذه القرية الغالية على نفسي ذكريات أليمة وجميلة وأبلغ شيء لا أزال حتى اللحظة اتذكره وصول خبر وفاة والدي رحمه الله فاضطرب البيت ولبست أمي السواد وارسلت الدموع غزارا ونحن اطفالها الثلاثة مشدودون الى صدرها. اذهلنا يومها المشهد ولكننا لم نعرف سببه. كنت اكبر الاطفال. عمري قد يكون في حدود ست سنوات واخي واختي هما الصغيران.
التويجري والفتاة الجميلة
ويضيف الشيخ التويجري مستعيدا ملامح تلك الايام قائلا (وذكريات القرية والطفولة كثيرة. فلقمة العيش لاتصل الى الصغير والكبير إلا بجهد شاق يقوم به الرجل والمرأة معا. كانت حياتنا بسيطة ومفروضا عليها التقشف في كل شيء وطبعا من الذكريات مالا ينمحي: بعد ان بلغت من العمر عشر سنوات كما اذكر صرت اشاغب اقراني وكثيرا ما انتصر عليهم في مرة من المرات تطاولت على شابة عمرها اربع عشرة سنة جميلة جدا فحقدت عليّ، والمرأة اذا حقدت لم يبق في قلبها رضى كما يقول المتنبي. ظلت ترقب الفرصة وفي يوم من الايام جئت الى بستان اهلها فاذا هي مغلقة الباب بيني وبينها فحاولت فتحه فقالت: لا افتحه لك ابدا ادخل من تحت الباب فهو واسع، فحاولت ان ادخل على بطني وحين خرج رأسي وضعت قدمها على رقبتي بكل ثقلها فصرخت حتى اوشكت ان اموت وهي لاتبالي بصراخي فسمعت امها واخواتها صراخي فجاءوا واذا انا في حالة من الاغماء فضربوها وانقذوني. وبقيت عندهم ساعات حتى استعدت صحتي واكرمتني أمها وقالت لي: سنبقيها لك حتى تكبر ونزوجك اياها، أتحبها؟ فسكت. كانت حجتها لاهلها اني ضربتها، وفي الحقيقة لا اذكر ما الذي اغضبها ولكنني لا انسى هذه الحادثة فقد علمتني كيف تكون ردود الفعل مع الخطأ والتجاوز على الاخرين ولعل الشاعر حميدان الشويعر اصاب كبد الحقيقة حين قال:
المرأة مثل الشاه خلف البيوت
يطمع بها الكلب ولو هو (جري)
غربة الطفولة الآن
وقد انتقل الطفل التويجري الى مدينة المجمعة ليعيش في كنف أخيه حمد وقد بدأت تظهر عليه نزعات اعتزال الاطفال والتأمل وقد وصف الشيخ التويجري تلك السنوات عندما كان في العاشرة من عمره بقوله (ففيما بعد العاشرة بدأت تظهر عليّ اعراض كثيرة من الداخل، اخذت التقاليد والاعراف والقيم تعمقها بشكل لايحتمل حتى خلفت ركاما من الضغوط والصور هي مما عانيته في حياتي.
فالتناقض والصور الغامضة في عقل ابن التاسعة أو العاشرة اوجدت تصدعا كبيرا في نفسه من الخوف الذي مصادره كثيرة. فالرقيب في القرية او الرقباء على سلوكنا نحن الصغار مصدر اضطراب نتيجة سوء فهمنا لما يلقى علينا.
واذكر صغيرا في مثل سني اوشك على الجنون من الخوف اخذ يبكي ويصيح اصابه شيء من الرعب، ذكرى لا انساها أبدا، ومن احساسي اليوم، وتجربتي مع نفسي تبينت ان كثيرا من المعاناة التي يعانيها رجل عاش عمره في القلق والضجر سببها انه في صراع رهيب مع نفسه وذكريات طفولته وتدرجه في السن مع هذه الطفولة وما تستقبله ذاكرته وتحتفظ به. وما بعد الطفولة الى هنا نصل الى سن العاشرة وبعد هذه السن تدخل في حياة الشيخ التويجري تجارب وشخوص جديدة حيث يروي لنا قصة يتمه وحبه للعزلة وكيف هرب الى الغار فانقذه الراعي من الجن والذئاب.
يعتبر «الفقد» أصعب تجربة في حياته
التويجري: فتاة جميلة حاولت قتلي في المجمعة
15 يونيو 2007 - 20:05
|
آخر تحديث 15 يونيو 2007 - 20:05
تابع قناة عكاظ على الواتساب
هاشم الجحدلي (جدة)-«الحلقة الاولى»