-A +A
صالح الفهيد
لم يعد سرا القول إن المؤسسات الصحفية السعودية تواجه أزمة مالية هي الأصعب في تاريخها على الإطلاق، وإن بدرجات متفاوتة، فثمة صحف لم تصرف مرتبات العاملين فيها منذ بضعة أشهر، وصحف أخرى لا تتأخر في الصرف، لكنها تجد صعوبة ليست خافية في الالتزام والوفاء بحقوق العاملين فيها.

لقد ألقت ثورة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة والتحولات الاقتصادية مجتمعة بظلال قاتمة على الإعلام التقليدي بكل وسائله، وخاصة الصحافة الورقية التي تعرضت لضربة مؤلمة جراء ذلك، فقد تراجعت أرقام مبيعاتها بشكل مخيف، وتبعا لذلك تراجعت الحصة الإعلانية التي كانت تحصل عليها، وهو الأمر الذي أثر بالنتيجة على إيرادات المؤسسات الصحفية بشكل كبير وسريع جدا.


ومؤخرا أقدمت صحيفة الحياة السعودية على إغلاق مكاتبها في العاصمة البريطانية لندن، ونقلت مقرها الرئيسي إلى دبي بهدف تقليص وترشيد المصروفات، فيما صحف سعودية أخرى يتهددها خطر التوقف عن الطبع بسبب تراكم الديون جراء عدم الدفع للمطابع التي تتولى طباعة هذه الصحف.

ورغم أن جميع الصحف المحلية بدأت منذ أكثر من عامين خطوات جادة وحقيقية للترشيد وخفض المصروفات من خلال إجراءات حادة وقاسية بإيقاف إصدار بعض المطبوعات الخاسرة، وبالاستغناء عن عدد كبير من كوادرها وصحفييها، وتخفيض مرتبات آخرين، وبإغلاق عدد من مكاتبها الفرعية أو بالانتقال إلى مقرات أصغر وأقل تكلفة إيجارية.

لكن كل هذه الإجراءات لم تحل المشكلة، خصوصا في المؤسسات الصحفية الكبرى التي كانت تتمتع بإيرادات مالية مرتفعة، أتاح لها على مدى أكثر من ثلاثة عقود الصرف بسخاء وبشكل كبير على مختلف أجهزة هذه المؤسسات، وفوق هذا تحقيق أرباح سنوية هائلة تجاوزت في كثير من السنوات عند بعض هذه المؤسسات الصحفية حاجز المئة مليون ريال.

ولهذا يلوم البعض مجالس الإدارات التي تعاقبت على بعض المؤسسات الصحفية، ويحملها جزءا كبيرا من المسؤولية عما تواجهه اليوم، لأنها لم تستثمر أرباحها الهائلة بالشكل الذي يحميها ويحصنها ويجنبها الوقوع في مثل هذا المأزق الذي تواجهه اليوم، فقد راحت هذه الإدارات تتنافس في صرف أكبر نسبة من الأرباح، ولم تفكر في إيجاد قنوات استثمارية تعود على هذه المؤسسات بمدخول ثابت يخفف على الأقل من وقع أي أزمة مالية تمر بها.

وإذا كان من غير المفيد البكاء على اللبن المسكوب، فمن المفيد الآن طرح الأزمة المالية التي تعصف بالصحافة السعودية على طاولة النقاش، كما فعل الأستاذ خالد المالك رئيس تحرير صحيفة الجزيرة، ورئيس جمعية الصحفيين السعوديين الذي علق الجرس وأطلق صرخة مدوية واستغاثة مؤثرة، مناشدا القيادة الرشيدة إنقاذ الصحافة السعودية من مصير قاتم ينتظرها لو تركت لوحدها تواجه أزمتها المالية التي تزداد سوءا عام بعد آخر، محذرا بشكل غير مباشر من أن بعضها قد يتوقف عن الصدور إذا ماترك دون دعم وتدخل من الدولة.

وبعد أن اعترف الأستاذ المالك بأن المؤسسات فعلت كل ما يمكن أن تفعله لمواجهة هذه الأزمة، وأنها استنفدت كل الحلول المتاحة لها للحد من تداعياتها، ووقف العجوزات المالية المتفاقمة في ميزانياتها، فقد ناشد الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- بتقديم الدعم الذي تحتاجه الصحافة المحلية في هذه المرحلة الدقيقة والصعبة من تاريخها «حتى لا تفقد المملكة مؤسسات صحفية عملاقة».

ومن وجهة نظري الشخصية أن الصحافة السعودية لا تحتاج للدعم المالي المباشر فقط، حتى تتجاوز أزمتها، رغم أنه ضروري وملِّح جدا، وإنما تحتاج أيضا إلى دعم واسع من الدولة بطريقة غير مباشرة عبر تعزيز مدخولاتها الإعلانية والتوزيعية، فعلى سبيل المثال: ينبغي إعادة إلزام الشركات السعودية بنشر ميزانياتها السنوية في الصحف المحلية، وهذه الإعلانات كانت من مصادر الدخل الثابتة في الصحف، لكن قبل عامين أعفت وزارة التجارة الشركات من نشر ميزانياتها الفصلية والسنوية. أيضا فقدت الصحف دخلها من الاشتراكات الحكومية بعد أن توقفت أو قلصت الكثير من الوزارات عديد اشتراكاتها في الصحف المحلية، ومن المهم في هذه المرحلة إعادة هذه الاشتراكات على الأقل إلى ما كانت عليه في السابق، وأهمية هذه الاشتراكات لا تقتصر على قيمتها المالية، بل على انعكاسها بشكل مباشر على الإعلانات، فأرقام التوزيع مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإعلانات.

وأنا أطالب المؤسسات الصحفية أن تجتمع لصوغ خطة الدعم التي تحتاجها من الدولة والرفع بها إلى القيادة على شكل مشروع شامل ومتكامل واثق بأنها ستجد القبول والموافقة من قيادتنا الرشيدة.

ولا أظنني بحاجة للتذكير بأهمية الصحافة السعودية داخليا وخارجيا في التعبير الصادق والأمين عن سياسة ومواقف بلادنا وقيادتنا وحكومتنا، كونها منصات ومنابر وقنوات تواصل من اتجاهين بين الحكومة والمواطنين، ومن المهم أن تبقى هذه الصحف قوية ومؤثرة ومنتشرة لتعبر بشكل أفضل عن رسالة المملكة وعن سياساتها، ومن الخطأ أن ينفصل المواطن السعودي عن الصحافة السعودية وتزداد الفجوة والجفوة بينهما، مقابل تزايد ارتباطه وانجذابه إلى وسائل إعلامية مختلفة أخرى غير موثوقة، مما يجعل المجتمع السعودي مكشوفا ومخترقا من وسائل إعلامية قد تصبح معادية في أي وقت من الأوقات، فتستهدف المواطن السعودي بكل ما يسيء لهذه البلاد ويضر بأمنها.

salehalfahid@