-A +A
أحمد عدنان
غادر إلى جوار ربه الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير وهو على مشارف المئوية، وإن كان صفير بطريرك الموارنة السابق فهو - في الوقت عينه - بطريرك لبنان الدائم.

تولى صفير الزعامة الروحية لطائفته عام ١٩٨٦ في ظرف حساس جدا، إذ دخلت الحرب الأهلية اللبنانية في صفحاتها الأخيرة، وكانت الموارنة بحاجة إلى شخصية توازي اللحظة التاريخية الحرجة لاستعادة الدولة والعبور إلى السلم، وكان صفير أهلا لهذه المسؤولية.


دخل صفير إلى سجلات التاريخ بمعارك كبيرة وجليلة، وعلى رأسها معركة اتفاق الطائف، إذ أمن صفير - بالشراكة مع حزب القوات اللبنانية بقيادة د. سمير جعجع - الغطاء المسيحي للاتفاق، ولولا مباركة البطريرك ما انطوت صفحة الحرب في لبنان.

تصادم صفير كذلك مع رئيس الحكومة الفاقدة للشرعية وللميثاقية - في ذلك الوقت - الجنرال ميشال عون، وهي معركة استمرت إلى أن غادر المقعد البطريركي سنة ٢٠١١، كانت مآخذ صفير على الحكومة العسكرية كثيرة وكبيرة؛ أهمها الاعتداء على الحريات، وتغليب المطامع الشخصية على المصلحة العامة، وجر اللبنانيين عموما والموارنة خصوصا إلى هاوية التهلكة، وبسبب صلابة البطريرك حرض الجنرال أتباعه على التهجم عليه لفظيا وجسديا في سابقة مخزية عبر التاريخ اللبناني.

بعد أن دخل اتفاق الطائف إلى حيز التنفيذ، خاض البطريرك أشرس معاركه ضد الوصاية السورية، واعتلى الزعامة السياسية للمسيحيين بعد نفي عون واعتقال جعجع، واجه صفير في سورية حافظ الأسد ثم نجله بشار، وواجه شبيحة البعث في لبنان من أمثال إميل لحود وجميل السيد، وكان شعار صفير صادقا وبسيطا: «استقلال لبنان»، وفي سبيل هذا الشعار جال صفير عواصم العالم، تحدث مع الملك حسين والرئيس حسني مبارك، فضلا عن زياراته الدائمة إلى واشنطن وباريس.

في عام ٢٠٠٠، ورغم أنف النظام السوري وأتباعه في لبنان، أطلق صفير في نداء المطارنة دعوته لخروج القوات السورية من لبنان، وأعلن مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط عن مصالحة الجبل بين المسيحيين والدروز، لتطوي هذه المصالحة صفحة الحرب الأهلية تماما، وتشكل نقطة ارتكاز متدحرجة تجمع اللبنانيين ضد الوصاية السورية والسلاح الإيراني.

باستشهاد الرئيس رفيق الحريري سنة ٢٠٠٥، خرج بشار الأسد من لبنان ولم يسترح صفير، إذ خاض معركة قاسية ضد السلاح الإيراني المتمثل في مليشيا حزب الله وحليفها ميشال عون، رفض صفير منطق القتل والإرهاب وتعطيل الدولة وقضمها، لم يمنح صفير حزب الله مجرد ابتسامة، وكان إذا تحدث عنه قال: «ما يسمى بحزب الله».

دخل لبنان عام ٢٠٠٩ منعطفا دقيقا في الانتخابات النيابية، وفي اللحظة الأخيرة أطلق صفير تصريحا تاريخيا حسم المسار الانتخابي وطنيا ومسيحيا: «إننا اليوم أمام تهديد للكيان اللبناني ولهويتنا العربية، وهذا خطر يجب التنبه له، ولهذا، فإن الواجب يقضي علينا أن نكون واعين لما يدبر لنا من مكائد، ونحبط المساعي الحثيثة التي ستغير، إذا نجحت، وجه بلدنا». ودعا الجميع إلى «التنبه لهذه الأخطار وإلى اتخاذ المواقف الجريئة التي تثبت الهوية اللبنانية، ليبقى لبنان وطن الحرية والقيم الأخلاقية والسيادة التامة والاستقلال الناجز، ولا يضيع حق وراءه مطالب».

كان لهذا التصريح ضد حزب الله وإيران أثر إيجابي في حسم مواقف الناخبين المترددين، فانتصرت القوى السيادية والاستقلالية في انتخابات ٢٠٠٩، وفي المشهد الإقليمي الأوسع، انتصرت المملكة وحلفاؤها وخسرت إيران وأتباعها.

وفي هذا التصريح، نستطيع فهم عقل صفير السياسي الذي ينطلق من عناوين: ١- استقلال لبنان وهويته العربية. ٢- سيادة الدولة والدستور والقانون. ٣- الاعتدال والتعايش. ٤- الحرية والحرية ثم الحرية. وهذه القيم من الواجب أن يجتمع عليها اللبنانيون مجددا هذه الأيام.

وبالتأمل في مسيرة صفير المشرفة والمشرقة، نلاحظ أن التسويات التي تبناها لم تخرق سقف ثوابته الوطنية، فإيمانه باتفاق الطائف لم يثنه عن المطالبة باستقلال لبنان كما أراد السوريون، وموقفه السلبي من آل الأسد لم يتحول إلى موقف عام ضد العروبة، وإيمانه بالعيش المشترك لم يسبب التغاضي عن المليشيا الإيرانية وإرهابها، وموقفه الصارم ضد الإرهاب لم يقفز مطلقا إلى موقع العداوة مع الإسلام.

كان صفير شجاعا بكل معنى الكلمة، فتصريحاته شاهدة ومواقفه راسخة، ففي ذروة انخداع العرب بحزب الله قال صفير «الطرف الذي يملك السلاح يستقوي على الآخرين ونرفض وجود جيشين في لبنان». وحين سئل إن كان سيزور قصر المهاجرين (مقر الرئاسة السورية) أجاب: «أين يقع قصر المهاحرين؟!»، لم يزر صفير سوريا الأسد مطلقا رغم كل الضغوط، إذ أراد آل الأسد أن تكون هذه الزيارة رمزا لاستسلام اللبنانيين والمسيحيين، فكان رد البطريرك «لن أزور سورية إلا وطائفتنا معنا، وهذا الأمر صعب في ظل توجس المسيحيين من النظرة السورية إلى لبنان». وفي يناير ٢٠٠٩ قال إن اتفاقية سايكس بيكو منحت لبنان استقلاله، وإن إسرائيل ستخرج من مزارع شبعا بالسلام.

برحيل البطريرك صفير، خسر لبنان سندا رصينا، وفقدت المملكة حليفا صدوقا، وأظن أن صفير لو كان على رأس الصرح البطريركي (بكركي) لصرخ كل يوم في وجه توحش السلاح الإيراني ومآلات التسوية الرئاسية، «الكل عم يحكي تركي وبكركي عم تحكي صح».

* كاتب سعودي