-A +A
علي تميم
لعلّ أصدق صورة عن الحراك الثقافي الاستثنائي الذي تشهده المملكة العربية السعودية الشقيقة، تتجلى في أروقة معرض الرياض الدولي للكتاب، ليس فحسب في الإقبال الجماهيري، وخصوصًا الشباب، على الكتاب، بل كذلك في الأنشطة والفعاليات المتنوعة التي تعكس حالة مبهجة من الاهتمام بالثقافة والإبداع والفنون، وكأننا في عيد يضجُّ حيوية وفرحًا ويزخر علمًا ومعرفة، ويشعّ إيجابية وأملًا بالحاضر والمستقبل.

مشهد ليس غريبًا على المملكة، التي لطالما كانت الثقافة واللغة العربية من ركائز مشروعها الأصيل، على مختلف الصُّعد، ولطالما كان الكتاب هو المحرّك الأول لكل هذا الحراك المعرفي، فالصروح المعمارية والإبداع الهندسي والتطور التقني وغيره ليس وليد صدفة، بل هو امتداد لوعي عميق بأن المعرفة هي المستقبل، وإذا تجوّلنا في أروقة معرض الرياض الدولي للكتاب سنشعر بقيمة العلم والكتاب واللغة، ونجد أنفسنا أمام حالة ثقافية متميّزة وضعت اللغة العربية منطلقًا لمشاريعها وجهودها، فالدورة الحالية التي تشرف عليها هيئة الأدب والنشر والترجمة بوزارة الثقافة تشهد تنوّعًا في الطرح والمضمون وتخاطب المثقفين والناشرين والمبدعين في حقول الأدب والترجمة والفنون وتوفّر لهم بيئة مثالية للقاء وتبادل الخبرات والمعارف في مختلف المجالات.


نعم هذا هو دور معارض الكتب؛ أي أن تكون حواضن أصيلة للمعرفة الفكرية والإنسانية النبيلة، وبيئة مثالية للارتقاء بمختلف صنوف الإبداع، ولطالما كانت دولة الإمارات شريكًا للمملكة العربية السعودية في نهضتها المعرفية والحضارية، حيث ساهمت، وما زالت، المملكة في الحراك الثقافي والفكري والعلمي العربي الطموح، ولعبت دورًا فاعلًا في لفت الأنظار نحو ثقافة عربية أصيلة وهوية وطنية تتشارك فيها دول المنطقة، إلى جانب الدور الكبير الذي يضطلع به البلدان الشقيقان بما يتعلّق بحراك النشر وحماية اللغة العربية وصونها، وإبقاء الكتاب ركيزة أساسية للنهضة الحضارية بأوجهها الشاملة، إلى جانب العديد من العلاقات المشتركة التي تزدهر يومًا بعد يوم.

وتحقيقًا لكل تلك الطموحات والأهداف يشارك مركز أبوظبي للغة العربية بجهوده ومبادراته لتتكامل الجهود ويلقي الضوء على أهمية الاعتناء باللغة العربية والكتاب، ورعاية قطاع النشر والعاملين فيه، ودفع عجلة حراك الترجمة قدمًا نحو الأمام؛ لأننا لسنا شركاء في الوطن والقضايا المصيرية الكبرى وحسب، بل في تطلعات الأجيال المقبلة نحو آفاق ثقافية تخدم كلّ تلك القضايا والطموحات.

وقد خصصنا هذا العام برنامجًا ثقافيًا متكاملًا ليقدّم للجمهور السعودي من مثقفين وروّاد معرفة مجموعة متنوّعة من الفعاليات الثقافية والمنصات الحوارية والندوات والمحاضرات التفاعلية التي نسعى لأن تمدّهم بمعرفة إضافية ضمن حقول الكتابة، والفنون، والنشر والترجمة وغيرها، وهذا ما يتقاطع مع أهدافنا ورؤيتنا، فالجمهور السعودي قارئ أصيل، وهذا ما تتحدّث به الأرقام والإحصاءات العالمية فهو إلى جانب شقيقه المصري يحتلّ المرتبة الثانية كأكثر الشعوب العربية قراءة، والـ11 عالميًا، وهذا ما يجعلنا نفخر ونعتزّ بهذا الجيل الذي سيحمل الراية، راية المستقبل المشرق.

إن رؤية المملكة 2030 تقوم على تعزيز المعرفة وتحفيز الصناعات الثقافية والإبداعية باعتبارها محرّكات أساسية لعملية البناء والتطوّر، لهذا فالجهود الثقافية تتكامل مع الجهود المجتمعية والسياسية والاقتصادية وكلّها تصبّ في بوتقة خير واحدة، لذا حرصنا هذا العام على تعزيز التواصل الفعّال مع الروّاد والمعنيين في مجال صناعة الكتاب ومعارض الكتب المتخصّصة، والتعريف بفعّاليات ومبادرات ومشاريع المركز المعنية بقطاع النشر والترجمة.

وعليه، يقدّم المركز أكثر من 450 عنوانًا من إصداراته الخاصة، كما يسلّط الضوء على الجزء الثاني من «سلسلة عيون الشعر العربي» التي تضمّ مجموعة من الكتب التي أعدَّها نخبةٌ من الباحثين المتخصّصين في الشّعر العربيّ؛ إذ بلغت حتى الآن 75 جزءًا، ونتطلع لأن تستكمل حتى نهاية العام الجاري لتصل إلى 100، فهي سلسلة نهدف من خلالها إلى إعادة إحياء التراث الشعري العربي الذي يشكل الشاهد الكبير على الهوية والذائقة العربيتين، إلى جانب ذلك سيعرّف بجهود الترجمة من خلال المشاركة بأحدث إصدارات مشروع (كلمة) للترجمة.

وللجوائز نصيب من مشاركتنا، حيث يسلط المركز الضوء على الدور المحوري للجوائز الأدبية المرموقة التي ينظمها وعلى رأسها «جائزة الشيخ زايد للكتاب»، إحدى أرفع الجوائز الأدبية في المنطقة والعالم التي تحتفي بمنجزات المبدعين وتثمّنها، ونعتبر المعرض فرصة للتعريف بقامات أدبية وفكرية عربية وخليجية وصولًا إلى جائزة «كنز الجيل» التي نسعى من خلالها إلى تكريم جهود ومشاريع وإبداعات الشعراء وأعمالهم النبطية، والدراسات الفلكلورية والبحوث، والتي تُمنح للدارسين والمبدعين الذين قدموا أعمالًا تناولت الموروث المتصل بالشعر النبطي وقيمه الأصيلة، وغيرها مما نأمل بأن تحقق غايتنا وأهدافنا في تعزيز حضور اللغة العربية والارتقاء بمكانة الكتاب.

إن دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية شريكان في قضايا وهموم تاريخية، فضلًا عن روابط الدم، وصِلات القربى، والمصير، والهوية العربية المشتركة، وهذا هو المشترك الأصيل، لهذا نتطلع لأن تحقق هذه المشاركة غايتها، وأن تبقى اللغة العربية، والكتاب، أساس نهضة معرفية وفكرية تقود الجهود نحو مستقبل يخدم طموحات وآمال الأجيال في كلا البلدين.