-A +A
محمد الساعد
بعد أقل من خمسة أشهر على بدء مشروع تحسين وتطوير مدينة جدة وإزالة الأحياء العشوائية منها، تبدو المدينة اليوم أقل تكدساً وأكثر انفتاحاً، سقط الغبار وتمددت المدينة، بعد سنوات من الانكفاء والانكسار، وكأنها مدينة «بكر» لا تزال كما كانت بداية الخمسينات الميلادية عندما بدأت تزيل أسوارها مندفعة نحو الحياة باحثة عن مظاهر التمدن والتقدم السريع، تسابق الزمن وتلبي تطلعات النمو الذي اجتاح السعودية بكاملها.

كانت جدة ويا للأسف في الطريق السريع لأن تصبح مدينة دميمة بلا مستقبل واضح، تملأ ملامحها بالمساحيق هاربة من زمنها الذي أرهقها وأرقها، لقد وصلت لحالة من التصلب والضياع لم تعد معه قادرة على الحركة.


المؤسف أنه لم يقدر لهذه المدينة من يأخذ بيدها من الموظفين التكنو قراط الذين مكنوا مالياً وإدارياً من الدولة، ومع ذلك لم يمتلكوا الرؤية الحضارية ولا الرؤية التي تساهم في توظيف إمكانات جدة وتعظيمها والسير بها نحو طريق التمدن دون أن يخدشها أو يلطخها أو يشوهها أحد، وكأنها طفلة يتيمة جميلة استغلها البعض وحاول التكسب منها، أتذكر تصريحاً لوزارة المالية السعودية في أعقاب كارثة سيول جدة الأولى أن حجم ما خصص من ميزانيات لصالحها في مشاريع الأمطار والسيول يزيد على 9 مليارات ريال، لكنها كانت قد ذابت ولم يكن لها تأثير.

لطالما قدمت جدة نفسها كمدينة مختلفة عن بقية مدن السواحل في الإقليم، من عدن جنوباً حتى السويس والإسماعيلية والعقبة شمالاً، منفتحة بقدر يليق بها وبوطنها الأوسع، بهية في كل وقت، حتى إن تعبت وأرهقت إلا أن أقل القليل يجملها ويظهر حسنها.

خلال العقود الماضية ونتيجة النمو السريع وتحولها لمدينة لوجستية وميناء لاستقبال الواردات وإعادة التصدير، تكدس على أطرافها الكثير من ذوي الدخل المحدود الباحثين عن فرصة للحياة والعمل، وبلا شك بنوا بيوتهم بنوايا حسنة بحثاً عن سقف يحميهم ويحمي عائلاتهم، بيوتاً على قدر «الحاجة» فخرجت أحياؤهم فقيرة ضعيفة عشوائية بلا خدمات ولا جودة، تراكمت فيها المشاكل حتى فقدت أي فرصة للتغير أو التطور، المفجع أيضاً أن الكثير من الانتهازيين ومصاصي الأراضي استغلوا نفس حاجات الفقراء بحثاً عن فرصة مجانية في المدينة العتيقة وفعلوها بنهم حتى لم يعد للمدينة الساحلية «ساحل» ولا شواطئ وأدارت ظهرها للبحر.

بلا شك، كانت جدة مدينة جاذبة طوال عمرها وما زالت كذلك، مدينة تتوسط البحر الأحمر بساحل يزيد على مئة كلم ولا تبعد عن الحرم المكي بأكثر من سبعين كلم، لديها أكبر موانئ المنطقة وعبره تدخل أكثر من 70٪ من واردات المملكة، لديها هويات متعددة ومتشابكة وأحياناً متضادة، لكن هذه المدينة هضمتها واستوعبتها، فسيفساء من المدن تختزلها مدينة واحدة.

مدينة لديها كل الإمكانات أن تكون نيويورك الشرق بكل الفرص التي تتيحها وكأنها مدينة الأحلام، وماربيا البحر الأحمر وخصوصاً مع المشاريع السياحية البحرية العملاقة التي ستدشن بها قريباً والمشاريع القريبة منها في جزر البحر الأحمر، وميناء نوتردام الشرق على غرار نوتردام الهولندي الأكبر والأضخم الذي يغذي أسواق وتجارة الاتحاد الأوروبي، كل ذلك التقطه الأمير محمد بن سلمان ووظفه لصالح جدة ولصالح بلاده، معلنا عن مدينة تستعيد إرثها الحضاري وتبني مستقبلها، وتتخلص من كل العوالق والشوائب، وكأنها تعود صبية كما كانت ذات يوم.

بلا شك، أن جدة خلال السنوات القادمة ومع تدشين أكثر من 350 مليون متر تم استردادها لصالح المدينة وإعادة رسمها وتخطيطها حضاريا من جديد ستكون درة الشرق ومدينة الأحلام والأموال والفرص التجارية.