-A +A
طلال صالح بنان
في المجتمعات الحديثة العسكر فئة احترافية مهمتها الأولى حماية البلد من أي عدوان خارجي أو داخلي ويأتمرون بسلطة مدنية تعكس الإرادة الحقيقية للشعب. في أوروبا: كان نابليون آخر الحكام العسكر، وربما كان يكتسب شرعيته من فتوحاته العسكرية، وبعد أن هُزم في معركة واترلو ١٨١٥ سقطت أحلامه التوسعية، ومعها لقبه ووضعه الإمبراطوري، وبسقوط نابليون كانت بداية إسقاط حق الفتح في القانون الدولي.

في المجتمعات الحديثة، هناك عزوف عن انخراط العسكر في السياسة. فلا يقتصر دور العسكر على دورهم الاستراتيجي الحاسم في الدفاع عن كيان الدولة، فقط، بل هم مطالبون دستورياً بخضوعهم المنضبط للسلطة المدنية، ويقسمون على ولائهم للدستور.


لكن يظل العسكر يحتكرون القوة الصلبة الرادعة في الدول الحديثة، التي تفوق أي سلطة تمتلك أدوات عنف تقليدية في الدولة، مثل الشرطة وفي بعض الدول هناك ما يسمى بالحرس الوطني، الذي في كثيرٍ من الدول الفيدرالية يكون تابعاً لسلطات الولايات، وليس للسلطة المركزية.

هناك، إذن: خيط رفيع يفصل العسكر (الجيش) عن السلطة المدنية، يتوه أحياناً في نصوص الدستور ويمثل صراعاً بين مؤسسات الدولة الرسمية، حول من له السيادة على الجيش. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال: ينص الدستور على أن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلا أن سلطة إعلان الحرب أُعطيت للكونجرس.

هذا الاقتسام الغامض بين الكونجرس والرئيس حول العلاقة مع العسكر أوجد صراعاً، إلا أنه لم يمنع الأخير من إرسال قوات للخارج، إما بحجة التدخل في نزاعات مسلحة، مثل ما حدث في الحربين الكورية والفيتنامية.. وأحياناً بالحصول على تفويض مؤقت من الكونجرس لإرسال قوات للخارج مثل في حالة غزو العراق وما يسمى الحرب على الإرهاب، دونما حاجة لإعلان الحرب من قبل الكونجرس.

إلا أنه، بالرغم من هذا التضييق الدستوري والسياسي، على احتمالية تدخل العسكر في الحكم، فالعسكر من الناحية الواقعية قادرون على تجاوز السلطة المدنية، التي تُحَرّم تدخلهم في السياسة، أو استخدامهم لأغراض تخدم الساسة. الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب حاول تجربة استمالة العسكر، لدعم بقائه في السلطة، لفترة ثانية، مخالفة للدستور وللممارسة الديمقراطية. واقعة ثانية، كُشف عنها مؤخراً كتاب بعنوان (Peril «الخطر») لصحفيين شهيرين في الواشنطن بوست (بوب ودورد روبرت كوستا) هي: اتصال رئيس الأركان الأمريكي (مارك ميلي) مرتين، قبل الانتخابات الرئاسية وبعد أحداث الكونجرس الدامية، بنظيره الصيني، يطمئنه فيها بأن الولايات المتحدة لا تنوي مهاجمة الصين، وإن كان في شيء من هذا سيخبره!

هل يعتبر تصرف رئيس الأركان هذا خيانة، كما يرى بعض الجمهوريين من أنصار الرئيس ترمب؟ أم يُعتبر تصرفاً مسؤولاً تمليه احترافية الجيش والظروف التي واكبت مثل هذا التصرف؟ لكن الحقيقة، دائماً تكون ماثلة، في احتمالية تدخل العسكر في السلطة وعدم ضمان ديمومة خضوعهم للسلطة المدنية.

مهما بلغ انضباط العسكر احترافياً وشدة التحكم في سلوكهم وتوجهاتهم، للإبقاء على ولائهم واحترامهم للدستور والإذعان بخضوعهم لحكم المدنيين، فإن سيطرتهم على القوة الصلبة في أي مجتمع، فيها الكثير من الغواية والإغراء، لتجربة مغامرة الاستيلاء على السلطة.. أوعلى الأقل التحكم في سلوك النخبة السياسية وحركة المؤسسات المدنية الحاكمة.