-A +A
منى المالكي
اللغة ليست مجرد رموز أو وسيلة للتواصل والتعبير عن مشاعرك وخواطرك فقط! اللغة هي الحامل الأكبر للثقافة والمعرفة، وهي السلاح الذي تدافع الأمم به عن هويتها وكينونتها، وهي إحدى المنصات الرئيسة التي يقلع منها المجتمع مغادرا بؤس التخلف والانغلاق إلى رحاب الرسالية حاملا مشعلا للحضارة، وقد كنا مشاعل النور عندما كانت غرناطة وقرطبة البوابتين اللتين دخلت منهما أوروبا إلى عصر التنوير!

هناك جدال واسع بين اللغويين وعلماء اللسانيات حول ما إذا كان للغة علاقة مباشرة بالفكر ونمطه، بمعنى هل نفكر من خلال لغتنا، وبالتالي نرسم حدود عالمنا وتطلعاتنا عبرها، فتتحدد نظرتنا للعالم بحسب اللغة التي نفكر بها؟ أم أننا نكوِّن تصورات سابقة عن العالم ونستخدم اللغة فقط للتعبير عن تلك التصورات؟ إلا أن الاتفاق هو وجود ارتباط وثيق بين اللغة والفكر، وقد رُجِّح ذلك عبر عدة مقولات لكبار الباحثين في اللغة والثقافة، كمقولة ابن حزم: «إنه لا سبيل إلى معرفة حقائق الأشياء إلا بتوسط اللفظ»، وكما تحدث دي سوسير: «إن أخلاق الشعب تؤثر على لغته واللغة هي التي تصنع ذلك الشعب».


نعيش الآن واقع التداخل اللغوي في مجتمعنا والذي يعبر عنه بمصطلحين: الأول «الثنائية اللغوية» والآخر «الازدواجية اللغوية»، وهذا الأخير يعرَّف «بوجود لغتين من نفس النظام اللغوي»، كالعامية والفصحى، أما المصطلح الأول فيعرَّف «بوجود مستويين لغويين مختلفين ليسا من نفس النظام اللغوي في لغة قوم وعلى بقعة جغرافية محددة»، كالعربية والإنجليزية مثلا، والثنائية اللغوية هي ما جعلنا نشعر بالخوف على لغتنا من السيطرة والهيمنة اللغوية، وخير مثال يطرح للاستشهاد بقدرة الأمم في الحفاظ على لغتها وهويتها هي فرنسا وعنايتها باللغة ومقاومتها للتأثير اللغوي الخارجي، فالفرنسيون كانوا في ريادة الشعوب التي اهتمت بهذه المسألة سواء في ما يخص الدفاع عن الفرنسية التي تمثل الهوية والقومية والريادة والضامن الحضاري، أو ما يخص تصدير الفرنسية بتجلياتها خارج فرنسا إما قهرا خشنا أو ناعما. وإصدارها «لقانون توبون» نسبة لوزير الثقافة الفرنسي جاك توبون؛ القانون الذي يهدف إلى إثراء اللغة الفرنسية والالتزام باستخدامها والدفاع عنها كاللغة الرسمية للجمهورية، وضمان أسبقيتها على المصطلحات الإنجليزية حصرا لزيادة استخدام الإنجليزية على الأراضي الفرنسية. والطريف أن هناك صراعا نشب داخل فناء اللغة الإنجليزية نفسها بين البريطانيين والأمريكيين، وذلك في القرن التاسع عشر الميلادي، سمي ذلك الصراع بحرب المعاجم، عندما سعت أمريكا للاستقلال اللغوي وتكوين هوية لغوية خاصة بها لفك الارتباط مع بريطانيا، وليتوج الاستقلال السياسي باستقلال ثقافي معرفي، فقد نشب الصراع بين صاغة معجم ورستر Worcester الذي كان ينزع نحو اللغة الإنجليزية المحافظة المعتمدة في بريطانيا، وبين صاغة معجم وبستر Webster الذي نزع نحو الاستقلال اللغوي للأمريكيين؛ الأمر الذي نجح فيه هذا الأخير فعلا وصار ذلك المعجم ذا صيت واسع ومنافسا عالميا.

فهل نستطيع قيادة معركة الحفاظ على لغتنا في مجتمعنا مع الاعتراف بأن لغتنا العربية غير منافسة في سوق العمل وعدم وجود مبادرات قوية لحل هذه المعضلة، مع الوقوف احتراما تقديرا أمام رغبة الآباء والأمهات في البحث عن مستقبل وظيفي جيد لأبنائهم وهذا حق من حقوقهم ولكن يؤخذ عليهم الانصياع الأعمى لهذه الرغبة الملحة في تمييع هويتنا والتي تمثل اللغة حجر الزاوية بها. يقول جون كالفي عالم «السوسيولوجيا اللسانية»: «اللغة مركز القيادة، وأما السياسة والاقتصاد فتابعان، ونتيجة لا وسيلة».