-A +A
محمد مفتي
العلاقات الشخصية بين الأفراد ليست أمراً بسيطاً وتلقائياً كما يبدو للبعض، فهي لا تسير بشكل سلس فطري كونها تخضع لأمور عديدة متشابكة، فنجاح أو فشل العلاقات الشخصية يتوقف على مدى تمتع أحد أطرافها أو طرفيها بالانفتاح أو الانطوائية، وطبقاً لتلكما السمتين يتحدد شكل العلاقة وقوتها والتي تحدد بدورها سلسلة من العلاقات المتتالية، وهكذا يستمر الأمر بصورة جدلية متشابكة تؤطر كافة العلاقات الاجتماعية التي تجمع بين أفراد أي مجتمع.

بعض الصفات التي يتمتع بها أي فرد قد تكون موروثة أو مكتسبة، فقد يولد البعض بصفات فطرية أميَل للحذر والتكتم، بينما يولد البعض الآخر اجتماعياً منفتحاً، ثم يتحول لاحقاً لشخص حذر متكتم نتيجة عدد معين من التجارب التي مر بها وساهمت في تغيير شخصيته، ونتيجة لذلك نجد أن هناك تغيرات قد تكون جذرية أو طفيفة في شخصية الفرد في ما يتعلق بحجم علاقاته مع الآخرين، وقد تتخذ العديد من العلاقات مناحيَ مختلفة بمرور الوقت ولا تتقولب بصورة واحدة طوال مدة استمرار العلاقة بين الطرفين أو بين الأطراف المنخرطين فيها.


لكل منا شبكة علاقات متعددة مع الآخرين مهما تفاوت حجمها واختلف، وقد يتعذر على البعض إدارة تلك الشبكة بالحكمة والمهارة الكافيتين، فيقع في العديد من المشكلات التي قد تتأزم بصورة كبيرة بسبب سوء فهم طبيعة الشخصية التي أمامه، وبخلاف ذلك فإن العلاقات الشخصية لا تعتمد على سمات طرف واحد من الأطراف المنخرطين في العلاقة، بل تعتمد على سمات كل منهم على حدة، وهو ما يزيد من تعقد مشكلة التواصل ويسهم في إفقادها سلاستها المتوقعة.

يخضع كل منا في حكمه على الآخرين للعديد من المؤثرات الشخصية والمجتمعية، فطريقة معينة في التحدث قد تثير إعجاب فرد ما بينما تثير استهجان فرد آخر، لذلك فلا توجد قواعد محددة أبداً تحكم العلاقات الإنسانية وتصلح للتطبيق في كل الأحوال، وقد يظن البعض أن تعدد العلاقات وتنوعها يُكسب الفرد خبرة واسعة في التعامل مع الآخرين، غير أن هذا الاعتقاد في رأيي يعتبر أحد أهم الأخطاء الشائعة في مجال العلاقات الإنسانية، فتعدد العلاقات ليس المحك بقدر ما يتوقف الأمر على التنوع، فقد يتعامل شخص ما مع عدد من الأفراد من ذوي الخصال الطيبة، فيستقر في روعه ووجدانه أن كل الناس تتسم بالطيبة، والعكس صحيح أيضاً، غير أن التعامل مع شخصيات متفاوتة الطباع هو ما يُكسب الإنسان الخبرات الحياتية الواسعة، فهناك الجيد وهناك الخبيث، هناك المتردد وهناك الحاسم، وهناك المؤمن والآخر المنافق.

من الجوانب المهمة أيضاً في تحديد طبيعة العلاقات الإنسانية التي لا يُلقي الكثيرون لها بالاً هو مدى عمق العلاقات بين الأفراد المنخرطين في أي علاقة، فالعلاقات السطحية مهما امتد وقتها زمنياً لا تساعد على اكتساب الخبرات ولا التفهم لشخصيات الآخرين، والأمر أشبه بفرد أصابه مرض عضال ونجا منه فاكتسب مناعة تحول بينه وبين الإصابة به مرة أخرى، بعكس الشخص الذي قرأ وسمع كثيراً عن هذا المرض ولكنه لم يصب به، فكل ما يعرفه عنه أشبه بتصورات ذهنية بحتة وليس وقائع أو حقائق.

في اعتقادي أن العمل الدبلوماسي في عالم السياسة الدولية لا يختلف كثيراً عن السياسة التي تحكم أفراد المجتمع، ففي الدول المتقدمة التي تحكمها مؤسسات دستورية حقيقية نجد أن سياسة الدولة وقوانينها تنعكس على الرئيس أو رئيس الوزراء، مثلما يحدث في بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية، وأي خروج عن تلك السياسة يسبب لأيهما أو لكليهما الحرج وربما يعرضهما للمساءلة، ولذلك فإن التعامل الدبلوماسي مع تلك الدول يتمتع بقدر من المصداقية والوضوح حيث يمكن بناء استراتيجية تتمتع بالمصداقية معها، سواء سلباً أو إيجاباً.

ويحدث العكس تماماً في الدول الديكتاتورية كإيران وغيرها من النظم القمعية، حيث لا يستطيع نفس هذا الدبلوماسي بناء نفس الاستراتيجية مع السياسيين الممثلين لها، فما قد يتم الاتفاق عليه صباحاً مع أي مسؤول إيراني ينسفه المرشد ظهراً بجرة قلم، فالسياسات في تلك الدول لا تعتمد على المؤسسات والقوانين، بل تعتمد على شخصية الرئيس أو المرشد وعلى مزاجه الشخصي وعلى قوة حاشيته وعلى مدى تماسك الدوائر الفاسدة المقربة منه، وعلى الرغم من أن بعض تلك الأنظمة تتظاهر بالديمقراطية، غير أن تلك الديمقراطية أشبه بمساحيق التجميل الزائفة والتي تزول مع أول قطرة ماء.

العلاقات السياسية هي انعكاس ومرآة للعلاقات الشخصية ولكن في سياقها الدولي الأوسع، ونمط العلاقة الذي يحكم الدول بعضها ببعض هو نفسه -تقريباً- الذي يحكم العلاقات بين الأفراد وبين بعضهم بعضا، ومثلما تتميز بعض العلاقات الشخصية بالموضوعية والانفتاح تتميز العلاقات بين الدول الديمقراطية باعتمادها على القانون والمؤسساتية، أما العلاقات مع الدول التي يحكمها الفرد الطاغية فهي تخضع لمزاجه ومزاج حاشيته فحسب، لذلك يتعين علينا -عندما يتحتم الأمر- تنحية بروتوكولات السياسة الدولية جانباً والتعامل مع تلك الدول بسياسة الأفراد، والأمثلة على ذلك كثيرة ولا مجال لحصرها في هذا الحيز المحدود، كما علينا أن نتوقع أن تتسم السياسة التي تتبعها هذه المجموعة الأخيرة من الدول بالمزاجية والتأثر بطبيعة وسمات كل ديكتاتور على حدة، فهو هنا من يُسيِّر الأمور على هواه، وطبقاً لمصالحه الشخصية وطبيعته الذاتية الفردية فحسب.