هاشم جفري
هاشم جفري
خالد محمد البيتي
خالد محمد البيتي
-A +A
خالد البيتي
قليل الكلام، مهيب الطلعة، يعمل في صمت، ألصق الصفات به هو السهل الممتنع. سهل في تعامله يحقق للطالب ما يريد في سبيل مصلحته.. ممتنع عن قبول ما يمس نظام المدرسة وأخلاقياتها بسوء..

كان الوكيل الأول لثانوية الشاطئ، وهو أكثر الناس شبهاً بقائدها المربي جميل عبدالجبار في سمته وحزمه، تشعر بتطابق روحيهما، فاختار كل منهما الآخر ليعملا سوياً في النهوض بالتربية والتعليم..


كانت التربية عنده قبل التعليم، فما جدوى العلم بلا أدب، فقد يحيا الأدب بلا علم، وذلك ما كانت عليه أجيال من الآباء الأميين، لكن العلم إذا لم يقترن بالأدب كان وبالاً على صاحبه ولم يشفع له في معترك الحياة..

كان المعلم هاشم الجفري يلقب بالسيد، وهو الذي ينادى به بين زملائه وطلابه، حارساً أميناً للقيم التربوية ولا يتنازل عنها مهما بلغ الطالب من الجد والتحصيل، لأن إخلال الطالب المجتهد بالنظام أشد ألماً على نفس المعلم وأكبر جرماً في حق المدرسة وأكثر دفعاً لغيره من الطلاب للسير على خطاه، أما المقصر فيكفيه من العقاب ما يردعه ليكون عبرة للآخرين..

أذكر أن زميلاً عزيزاً كان من الأوائل إن لم يكن الأول في معظم مراحله الدراسية ليس على الفصل فحسب، بل حتى على المدرسة، وفي نشوة قيادته للسيارة عندما كنا في المرحلة التوجيهية قام بالتفحيط بجوار المدرسة عند الانصراف ومن سوء طالعه رؤية السيد له، فاستدعاه في اليوم التالي وتوجهت معه للإدارة وحاولت التخفيف من الموقف حتى لا تقع عليه العقوبة ورجوت السيد بحكم قربي منه كمشرف على النشاط المدرسي، لكن المربي الكبير الذي يتساوى عنده الجميع ولا يمكن لشفاعة أن تخترق قيمه وقيمته، أصر على تطبيق العقوبة، فكان أن نال الزميل ما يستحقه من عقاب..

بدا لي الأمر مؤلماً للوهلة الأولى ولكني مع الأيام أدركت صواب السيد، وأن تراجعه تنازلٌ عن فضيلة من فضائل المربي في العدل والمساواة بين الطلاب، وقد علمتنا دورة الأيام أن من أمن العقوبة أساء الأدب.. وما عاد زميلي لمثل صنيعه بعد ذلك اليوم..

لقد كان السيد مربياً بالفطرة يعرف أين يضع الطالب لتحقيق أهدافه بعيداً عن الصلف، قريباً من نفوس المعلمين والطلاب.. يروي الأديب الدكتور سعيد السريحي وهو من قدامى خريجي الشاطئ الثانوية فيقول:

«في أول يوم من أيام المرحلة الثانوية، وقف المعلم هاشم الجفري أمامنا نحن الطلبة المستجدين، كي يخبرنا أننا ملزمون بلبس «جزمة كاوتش»، وحين سأله أحد الطلبة عما إذا كنا ملزمين بلبس غترة بيضاء كما كنا نفعل في المدرسة المتوسطة، قال: أنتم أحرار، لبس الغترة راجع لكم، الجزمة ضرورية حتى تحميكم من المسامير والزجاج. وكانت مدرسة الشاطئ الثانوية حديثة البناء آنذاك.

مرت 50 عاماً على تلك الكلمات وما زال صدى قوله يتردد في الأذهان «أنتم أحرار، لبس الغترة راجع لكم»، لم يكن لبس الغترة أو عدم لبسها قضية مهمة، غير أن إحساسنا بأننا قد غدونا أحراراً نلبسها إن أردنا أو لا، كان هو الدرس المهم الذي تلقيناه ذلك الصباح».

هذا الدرس العظيم الذي يسوقه الأديب السريحي يدلل على هدف راق من أهداف التربية وبناء جديد لمفهوم الحرية الشخصية للطالب التي لا يفرضها المربي، وكذلك حرصه الشديد على حماية أقدامهم مما قد يلحقها من أذى.. وهناك فرق بين غترة لا ينفع لبسها ولا يضر طرحها وبين حذاء يحمي القدم مما قد يَقْعُد بالطالب عن الحضور.

لم يكن المظهر عنده ذا جدوى لأنه يعي أن اللؤلؤ لا يظهر على السطح وإنما يتطلب البحث عنه في الأعماق..

درس يسوقه السيد يرفض فيه الشكليات وبناء الشخصية الواحدة المتكررة في كل هيئات الطلاب، يريد أن يترك لهم قرار الاختيار فيما ليس منه طائل لأن التعليم الحق لا ينصرف لما فوق الرأس وإنما الذي يعنيه ما بداخل الرأس.. فالتربية في نظره ليست قيداً يحيط عنق الطالب إنما هي إطلاق حريته بما ينفعه ولا يضره..

جمعتني فترتان بالسيد الكبير؛ كانت الأولى في ثانوية الشاطئ عندما كان وكيلاً لها، والثانية عندما أصبح مديراً لثانوية قريش، وبعدها بسنوات أصبح مديراً لثانوية الفتح وكانت فتحاً علمياً جديداً، ولك أن تقول فيها ما قيل في كتاب فتح الباري «لا هجرة بعد الفتح». بفضل هذا المربي العظيم أصبحت الفتح الثانوية مدرسة يشار إليها بالبنان لا تقل عن ثانوية الشاطئ في زمن مديرها الفذ جميل عبد الجبار..

بعد تقاعده عن العمل يقضي السيد معظم أوقاته في دار متواضعة تحيط بها مزرعة صغيرة بين مكة المكرمة وجدة، يقوم عليها بنفسه، وتحتل فيها الدواجن والطيور مكانة عزيزة في نفسه، ولا غرابة على فاضل مثله أن يتتبع الأجر بين أكباد الطيور..

ومازال زملاؤه وطلابه الذين تربوا على يديه يقصدونه بين الحين والآخر..

حفظ الله هاشم جفري وأمد في عمره ومتعه بوافر الصحة والعافية.